مؤلف هذا الكتاب كيتان ج. باتيل هو مؤسس ورئيس مجموعة «غولدمان ساتشز» للفكر الإستراتيجي، أولى اهتمامه لدراسة العالم من وجهة نظر إستراتيجية وإنما في أفق مستقبلي استشرافي عبر محاولة تقديم بعض «السيناريوهات» الجيوستراتيجية لمواجهة الأخطار القائمة. وهو عسكري سابق. هذا الكتاب «المعلم الإستراتيجي» يخص القرن الحادي والعشرين وعن مفهوم «الزعامة» الإستراتيجية السائد الذي يحاول شرحه لعامة القراء. ويبدأ المؤلف بالتأكيد على تعقيد العالم الذي نعيش فيه وما عرفه من تبدلات على صعيد المناخ والبيئة والديموغرافيا.
ومن أهم المعطيات التي يؤكد عليها في رسم الصورة الراهنة للعالم في مطلع هذا القرن وموازين القوى فيه، قوله ان أوروبا تعاني من «انحطاط نسبي» والولايات المتحدة تواجه «انحطاطا ممكنا»، هذا بالترافق مع تطورات تكنولوجية لا تبدو أبدا المخارج التي تقود العالم باتجاهها. هذا كله خلق عالما يتسم خاصة بعدم وضوح الرؤية بالنسبة للمستقبل على المدى المنظور. وبناء على مثل هذا الواقع يؤكد على ضرورة رسم خطط لمواجهة الاحتمالات المستقبلية على المدى الطويل. وهذا ما يشرحه المؤلف على مدى الفصول السبعة التي يتألف منها الكتاب والتي يختمها بفصل يحمل عنوان: (أجندة من أجل المستقبل).
يؤكد مؤلف هذا الكتاب أن «فشل الإستراتيجيات التي رسمتها المؤسسات اليوم، وخاصة الحكومات والمجتمعات والأمم، يشكل العقبة الأكبر أمام تحقيق الصيغة الأفضل لما يستطيع أن يحققه البشر». المجتمعات، كما يرى، لم تعرف كيف تحقق مردودات أعلى من استغلال ثروات العالم، وبالتالي «خلق الثروة» من رأس المال الإنساني المستخدم. |
والحكومات «فشلت في إحلال السلام والازدهار والحريّة، والإمبراطوريات وتجمعات الدول لم تنجح أيضا في تحقيق قيمة أكبر مما كانت قد أعطته «الدول ـ الأمم»، والأمم، كما المجموعات التي تلتقي على أساس انتماء اثني أو عقائدي، لم تستطع أيضا أن توفّر «عددا كافيا من الأفراد المستنيرين القادرين على التمتع بقدر من الحب والتعاطف الضروريين من أجل معالجة أشكال الخلل التي أنتجتها المنظومات الأخرى»، ولا ينسى المؤلف أن يحمّل الأفراد أنفسهم بعض مسؤولية حالة «عدم الاستقرار» التي يعيشها العالم، وذلك بسبب «عزوفهم» عن لعب الدور المطلوب منهم (بسبب الخوف والجشع). |
ويذهب المؤلف أبعد في مثل هذا الاتجاه إذ يؤكد أن العقائد الدينية الكبرى لم تلعب الدور الحاسم في إحلال السلام والازدهار في العالم وتأمين الحرية النهائية للبشر، هذا لاسيما وأنها دخلت، عمليا، في منافسات مع مسارات التقدم العلمي والتكنولوجي، وأيضا مع المفاهيم الديمقراطية. وبهذا المعنى يرى المؤلف أن رجال الدين من مختلف العقائد دون استثناء يتحملون جزءا من «فشل» العالم في صياغة إستراتيجيات تؤدي إلى استقراره وسلامه النهائي. |
ويعيد المؤلف أحد أسباب «الفشل الإستراتيجي» على المستوى العالمي إلى واقع أن الفكر الإستراتيجي نفسه «لم يعرف نهضة» مثل تلك التي عرفتها ميادين العلوم بفضل الجهود التي قدّمها الباحثون والسلطات الأكاديمية منذ عصر النهضة في العديد من الميادين وتوصلوا في النهاية إلى «تقديم حلول محددة لمشاكل محددة». لكن على المستوى الإستراتيجي «لم يتم امتلاك الثروة والتنوع المطلوبين من أجل فهم العالم وربما توجيهه». |
لكن ما جرى هو العكس تماما، ذلك أن الإستراتيجيات التي تمّ تبنّيها كانت «ضيقة الأفق وخطيرة». ذلك أنها «قادتنا إلى القيام بحروب لا فائدة منها وإلى تدمير البيئة وإلى قدر أكبر من المنافسة». باختصار قادت إلى عالم (زاخر بالأخطار). ولا يتردد مؤلف هذا الكتاب في اتهام الفكر الإستراتيجي السائد بقدر كبير من التقصير. ويعيد أفضل ما أنتجه هذا الفكر الإستراتيجي إلى فترات سابقة على القرن العشرين، إنها تعود إلى المنظّر الإستراتيجي الأكبر في الصين خلال تاريخها كله صن تسو وإلى المفكر الإستراتيجي الأوروبي كلاوزفتس. هذان المفكران استطاعا أن يفهما «بانوراما العالم الواسعة». |
ثم يشير المؤلف في موقع آخر إلى «نقص الاستثمارات» في حقل الأبحاث الإستراتيجية بالقياس إلى الحقول الأخرى. وبالتالي «إننا لا نملك التجهيز الجيد من أجل صياغة إستراتيجيات لمواجهة سلسلة معقّدة من العوامل المتداخلة والمتعاظمة نحن بصدد مواجهتها اليوم»، كما يقول. بالمقابل يشير إلى أن السياقات الإستراتيجية الراهنة ركّزت خاصة على أمور «عادية»، بل ويمكن لجميع البشر أن يهتموا بها. وهذا ما يسميه المؤلف بـ «افيون المساوة». |
والنتيجة هي أنه تمّ تجنّب القضايا الجوهرية التي تهم عالم اليوم، وتهم خاصة عالم الغد بسبب الحرص على «عدم الابتعاد معايير المساواة». كذلك يبقى منظّرو الإستراتيجيا اليوم في إطار موقع «من يعطي الدروس» للأخرين. وهذا يؤدي إلى عزلهم عمليا عن حقيقة التداخل التي تتسم بها الأوضاع القائمة في عالم اليوم. إنهم يعتبرون أنفسهم كـ «كيانات مستقلة». هذا في الوقت الذي كان من طبيعة مثل هذه «الكيانات المستقلة»، بمعنى المعزولة، أن لا تستطيع فهم التداخل بالنسبة لكل الأوضاع والمسائل. إن «عدم القدرة على الفهم»، في مثل هذه الحالة، يطبقه المؤلف على (جميع الكيانات، بما في ذلك الأشخاص والمؤسسات والبلدان). |
إن دور القائد، كما يراه المؤلف، هو في تحرير الإمكانيات الكامنة لدى البشر. وبهذا المعنى يصبح على الحكومات أن «تخلق الشروط التي يستطيع البشر بها أن يحققوا ما تسمح به إمكانياتهم الكامنة». هذه القدرات لدى البشر تتم ترجمتها من خلال «التزامهم» في مسيرة حياتهم. هذا «الالتزام» الذي يصفه المؤلف أنه يمكن أن يكون «واعيا» أو «لا واعيا»، «بناءً» أو «مخرّبا». بكل الحالات (الموت وحده هو الذي يسمح للبشر أن يفكّوا الالتزام الذي انخرطوا فيه خلال مسارهم في العالم). |
وفي معرض الحديث عن «إستراتيجيات المستقبل» يؤكد المؤلف أن «مستقبلنا حاضر في كل دقائق حياتنا اليومية». وذلك على أساس أن البشر يملكون دائما في داخلهم «خيارات متنوعة». وما يتم التأكيد عليه هو أنه ينبغي في السياق الراهن من التحديات التي يواجهها العالم إعادة النظر في المقاربات الإستراتيجية بسبب الحاجة الحقيقية التي يتطلبها الفكر الإستراتيجي المتقدم من أجل تفحص عدد من الأسئلة الجوهرية (...) التي تسود في حالة الفوضى والتعقيد لأوضاع العالم والوسط المحيط. |
ويرى المؤلف في هذا السياق أن أولئك الذين سوف يتحركون بقصد بلوغ «مستوى أعلى من الفكر الثوري الإستراتيجي» سيكون من المطلوب منهم أخذ عوامل عديدة باعتبارهم، وفي مقدمتها الزمن والتداخل في العلاقات وواقع الثروات وبحيث تتم أقلمة الفكر الإستراتيجي مع هذه المستلزمات كلها. ويحدد المؤلف في الصفحات الأخيرة من الكتاب وجود فئتين من الإستراتيجيين اليوم تضمّان «أولئك الذين يرون ضرورة إعادة توجيه عميقة وأولئك الذين لا يريدون ذلك». |
هذه الفئة الثانية «تخفي خوفها من التغيير» ولذلك يبرّر متطلبات المؤسسات القائمة وإرادة القادة والنظريات الإستراتيجية والتقنيات المناسبة من أجل المحافظة على الأوضاع كما هي. لكن الرؤية الجديدة للعالم تستلزم البحث عن فكر إستراتيجي متقدّم يجمع بيت التحليل والحدس. مثل هذا الجمع وحده هو الذي سيسمح بوضع خطط انطلاقا من معطيات ومن سبل جديدة كامنة ينبغي التعرّف عليها. |
ويقول المؤلف في أحد المقاطع الأخيرة: (الحكومات تحكم، والجيوش تشن الحروب، والمدارس تمارس التعليم والمقاولون والشركات يجنون الأرباح. إن العالم الذي نعيش فيه يعكس، جزئيا، المؤسسات التي أقمناها، وإذا كنا نريد الزعامة والسلام والتنمية والشفاء والمشاركة نحن بحاجة إلى تغيير المؤسسات التي تعطي اليوم هذه النتائج. هذا سيتطلب تغيير بعض المؤسسات وإصلاح بعضها وإضافة البعض الآخر). |
كتاب قال عنه نلسون مانديلا: «هذا كتاب مهم بالنسبة لأولئك الذين يريدون إشادة عالم أكثر سلاما ووحدة». تجدر الإشارة الى أن الكتاب صدر للمرّة الأولى عام 2005، وهذه هي «نسخته» الجديدة. |
*الكتاب:المعلّم الاستراتيجي، السلطة والهدف والمبدأ |
*الناشر:أرّو بوكس ـ لندن 2007 |
*الصفحات : 240 صفحة من القطع المتوسط |
البيان الامراتيه