جاسوسة القرن.. نجمة في الرقص الشرقي
عدامها جعلها أسطورة تثير اهتمام المؤرخين والروائيين
[ جاسوسة القرن.. نجمة في الرقص الشرقي
ليست بالمرأة الاعتيادية وبالتأكيد أنها من الشخصيات المثيرة للجدل وإلا لما تركت وراءها كل هذا الإرث المليء بالتساؤلات والاستفهام. يتذكرها البعض كامرأة راقصة دوخت الرجال في ذلك العصر لما كانت تقدمه من فنون في الإغراء والتعري والرقص لاسيما الرقص الشرقي الذي جعلها أشهر من نار علي علم بين
صفوف النخبة من العسكر. ومن المؤكد ان هذه المرأة التي أسمت نفسها ماتا هالي كانت تملك جمالا أخاذا ومفاتن جسدية جعلت من الرجال المهووسين بهز الوسط لا يستطيعون كبح انفسهم من حضور حفلاتها والليالي الحمراء التي تحييها. وبالرغم من وجود الكثير من النساء الجميلات في اوربا في مطلع القرن العشرين-أي في الزمن الذي ظهرت به ماتا كراقصة - الا أنه لم تكن هناك من تستطيع الرقص مثلما ترقص أو تعرض مفاتن جسدها بنفس طريقة واسلوب ماتا. ]
جمال أدهش حتي الأعداءوالملاحظ انه حتي أكثر النقاد المسرحيين اللاذعين أقروا واندهشوا بقدراتها الفائقة في الرقص. وقد كتب أحدهم: أن الواحد يحتاج إلي كلمات خاصة وكلمات جديدة عندما يريد ان يوضح ذلك الفن المثير الذي كانت تؤديه ماتا هاري. وربما من السهل أن نقول ان هذه المرأة هي الإيقاع الذي يقدم موسيقي تنساب من ذلك الجسد الفاتن الذي يتمايل طربا مع ايقاعات شرقية يسمعها لأول مرة الرجال الغربيين.
ولم تسلب ماتا عقول الرجال علي المسرح وحسب بلان حتي اسوء اعدائها وهو الجاسوس بيير بوتشاردون أعترف بأنه لم يكن يستطيع منع نفسه من النظر الي مفاتن جسدها. والمعروف ان ماتا هاري او الراقصة الشرقية تعد اشهر امرأة في عالم الجاسوسية في التاريخ ونعتت بالخائنة من قبل قوات التحالف لأنها وحسب المحكمة التي قدمت لها كانت مسؤولة عن مقتل الآلاف من جنودهم.
واليوم وطبقا للسيرة الذاتية الجديدة التي قدمها الباحث والعالم في الجنس البشري -الأمريكي بات شبمن - فإنه في الوقت الذي عاشرت فيه ماتا كخليله وعشيقه عشرات الضباط و المسؤولين الكبار في الحكومة فلم تكن هناك سوي أدله قليلة جدا - في الواقع - عن كونها جاسوسه. ويقول (بات شبمن): ان ماتا كانت شيئاً مختلفا من البداية حتي النهاية، وإنها شخصية مسرحية كانت تغير اسمها كما أي امرأة تقوم بتغيير تسريحة شعرها، ومن بين أول الأسماء التي حملتها كان مارجريتا زيل . ووالدها ادم زيل الذي كان يملك معملا لصناعة القبعات في مدينة ليواردن الهولندية والذي أولاها اهتماما فاق الاهتمام بأخواتها الثلاثة. ورغم انها تنحدر من اسرة ثرية إلا ان ماتا هاري اشتهرت كراقصة هولنديه خلال الحرب العالمية الأولي. واسمها الحقيقي مرجريت جرترود زيلا وولدت عام 1876.
كانت ترقص علي مسارح باريس حين اتهمها الحلفاء بأنها تعمل لحساب الألمان إبان الحرب وقدمها الفرنسيون للمحاكمة وانتهت بحكمها بالإعدام عام 1917.
وبعد إعدام مارغريتا زيل الشهيرة ب ماتا هاري في 15 أكتوبر 1917 من قبل الفرنسيين اصبحت بمثابة اسطورة لا تزال تثير اهتمام المؤرخين والروائيين والسينمائيين.
التعري وإخفاء الهوية الحقيقية.. كانت تلك الراقصة الهولندية حريصة علي ان تخفي حقيقتها عبر نسج الحكايات الخيالية عن ماضيها، حيث قالت انها ابنة إسرة من امراء الهند، او من سلالة المهراجات.. لكن الحقيقة شيء آخر فهي من مواليد 7 اغسطس 1876 في بلدة لاوردن الهولندية، وابنة آدم زيل، الثري الذي فقد ثروته، وارسل ابنته للعيش عند احد اعمامها في لاهاي وهناك تزوجت من الكابتن رودلف مكليود ذي الاصل الارستقراطي الاسكتلندي الذي كان يكبرها بعشرين عاما وانجبت منه طفلا وطفلة بعد وفاة الطفل فجأة وعمره عامان ونصف العام وتزايد الخلافات داخل الاسرة طلبت مرغريتا الانفصال وغادرت هولندا الي باريس في مطلع عام 1904.
لم تكن مرغريتا تهتم ابدا بالرقص وفق التقاليد الفنية البوذية كما كانت تدعي، ولكنها مع ذلك بدأت عملها في الصالونات الباريسية بصفة راقصة شرقية لقد نجحت سريعا، ولكنها قالت بعد سنوات: لم اكن قادرة ابدا علي اداء الرقص بصورة صحيحة، لكن الناس كانوا يأتون لرؤيتي لانني كنت المرأة الاولي التي تجرأت علي ان تعري بعض مفاتنها امام الجمهور وتضيف كلما زدت من التعري زاد نجاحي وتهافت علي الكثير من المعجبين. ومنذ ذلك الحين اختفت مرغريتا زيل ومدام مكليود لتحل مكانها ماتا هاري للاشارة الي اصل هندي مزعوم، وقد اصبحت بعد فترة وجيزة احدي نجمات باريس، ومن هذه المدينة انطلقت ل سغزو اوروبا، من مدريد الي ميلانو ومرورا بمونت كارلو وبرلين وغيرهما.
وفي برلين اصبحت عشيقة الكولونيل الفريد كيبير الذي طلب منها ان ترافقه لحضور مناورات الجيش في منطقة سيليزي .
عندما اندلعت الحرب العالمية الاولي في 1914 كانت ماتا هاري في برلين وهربت منها الي هولندا، حيث حاولت العثور علي ابنتها البالغة آنذاك من العمر ست عشرة سنة، لقد وافق زوجها السابق، بعد تبادل عدة رسائل علي ذلك، شريطة ان يتم اللقاء في مدينة روتردام، ثم صرح بعد ذلك بأنه ليس غنيا الي الدرجة التي يمكن معها ان يدفع تكاليف السفر، وهكذا لم تر ماتا هاري ابنتها ابدا.
من هولندا عادت الراقصة الشرقية، الي باريس من جديد، وتدل وثائق ارشيف الجيش الالماني علي ان الاستخبارات الالمانية قد جندتها في هولندا خلال شهر يونيو 1915 تحت رمز العميل ه 21 لقد حصلت علي تأشيرة دخول لفرنسا بقصد الاقامة وتأشيرة دخول مؤقتة لبريطانيا لانه لم يكن الوصول الي فرنسا ممكنا عبر بلجيكا المحتلة، او عبر منطقة شمال فرنسا.. وفي بريطانيا قامت شرطة سكوتلانديارد بتحقيق روتيني مع الراقصة ولكنها ارسلت بعد ذلك مذكرة لفرنسا، التي كانت ماتا هاري قد وصلتها تطلب فيها عدم منح تأشيرة للعودة من جديد الي بريطانيا بسبب سلوكها الغامض .
رقص وعشاق عسكر.. استعادت ماتا هاري أمجادها في باريس، حيث لم تكن تخضع لأي رقابة خاصة.. وقد كان حولها عدد كبير من العشاق اغلبيتهم الساحقة من الضباط الالمان، اذ صرحت فيما بعد بأنها كانت دائما مأخوذة بالزي العسكري وقالت: افضل كثيرا ان اكون عشيقة ضابط فقير علي ان اكون عشيقة مصرفي غني .
[وبعد عودة لفترة قصيرة من الزمن الي هولندا واجهها رفض السلطات الانجليزية منحها تأشيرة مرور للوصول الي فرنسا ولا شك بأنها كانت قد اصبحت محروقة لكنها لم تتخل مع ذلك عن مشروعاتها وانما غيرت فقط خط سيرها والمرور بأسبانيا.
بعد عودتها من جديد الي فرنسا قبلت ان تعمل، بعد تردد، لحساب جهاز مكافحة التجسس الفرنسي بعد استخدام ورقة الشكوك الحائمة حولها بأنها جاسوسة المانية، ولكن في 17 فبراير 1917 تم القاء القبض سرا علي ماتا هاري حيث كانت تقيم في أحد الفنادق الواقعة في جادة الشانزيليزيه لقد اقتيدت الي سجن سان لازار، حيث تعرضت للتحقيق مدة اشهر كاملة نفت فيها وجود اي علاقة لها مع الاستخبارات الالمانية، وحاولت ان تثبت ان الاموال التي تتلقاها مصدرها عشاقها المختلفون، لكن قاضي التحقيق العسكري توصل الي نتيجة نهائية أكد فيها ان الجاسوسة تتلقي الأموال من العدو مقابل خدمات تقدمها له.
رقصها الرائع وذلك الثعبان الضخم الذي تستعين به ماتا هاري في رقصاتها جعل شهرتها تبلغ الآفاق.. ليس في باريس وحدها بل انتقلت الي كل أنحاء فرنسا.. والي خارجها الي أوروبا.. رغم عدم تقدم وسائل الاتصال في ذلك الحين..
لي أن فوجئت في أحد الأيام بأحد ضباط المخابرات الألمانية في حجرتها بعد أن انتهت من رقصتها.. وعرض عليها العمل مباشرة لحساب الألمان.. ولا أحد يدري لماذا قبلت ماتا هاري العمل لحساب الألمان
أهو انتماء فكري إلي الحضارة الألمانية أم بغض للفرنسيين الذين يتعاملون معها كراقصة ملهي أم أنه حب المغامرة والإثارة.. لا أحد يدري..
المهم أن ماتا هاري وافقت علي العمل لحساب الألمان وبدأت في توطيد علاقاتها بالمسؤولين الفرنسيين، وكبار قادة الجيش وبدأت المعلومات العسكرية تتسرب إلي الألمان علي نحو أقلق رجال الأمن الفرنسيين، ودفعهم للبحث عن سر تسربها..
وأحاطت الشبهات ب ماتا هاري . كانت أكثر المقربات للمسؤولين ورجال الجيش، والدبلوماسيين الفرنسيين، ولكن كل هؤلاء أكدوا أن علاقاتهم بها لم تتطرق أبدا إلي الأسرار السياسية أو العسكرية
[ولكن شكوك رجال الأمن لم تبتعد عن ماتا هاري. وفي إصرار راح طاقم أمن فرنسي كامل يراقب ماتا هاري ليلا و نهارا،علي أمل العثور علي دليل إدانة واحد، يتيح لهم إلقاء القبض عليها ومحاكمتها.
ولكن شيئا من هذا لم يحدث.. ]لقد ظلت ماتا هاري علي علاقاتها بالجميع، دون أن ترتكب خطأ واحدا أو تترك خلفها دليلا - ولو بسيطا - في حين استمر تسرب الأسرار العسكرية بلا انقطاع.. وهنا قفزت إلي ذهن أحد رجال الأمن فكرة لم لا تكون ماتا قد استغلت علاقاتها بالدبلوماسيين، وراحت تنقل رسائلها إلي الألمان عبر الحقائب الدبلوماسية التي لا يجوز اعتراضها أو تفتيشها.. ]
وكانت فكرة لا بأس بها بالفعل... فكرة تستحق أن توضع موضع التنفيذ.. وعلي الرغم من أنه لا يجوز اعتراض الحقائب الدبلوماسية أو فحصها وتفتيشها فقد نجح رجال الأمن الفرنسيين في التقاط خطابات باسم ماتا هاري من إحدي الحقائب الدبلوماسية، وراحوا يفحصونها، ويمحصونها، ويدرسونها بكل دقة، وعلي الرغم من هذا لم يعثروا علي دليل واحد..
كانت ماتا هاري تستخدم أسلوب شفرة شديدة التعقيد في مراسلة عملاء ألمانيا خارج فرنسا.. أسلوب يصعب إن لم يكن من المستحيل فك رموزه وحله.
[نهاية امرأة]
ومع ذلك فإن الشيء المؤكد انه وبالرغم من العديد من المصادر التي تشير إلي إن ماتا هاري مسؤولة عن دماء الآلاف جنود التحالف لم تستطع المحمكة إن تقدم دليل واحد عن أدلائها بمعلومات خطرة أو قامت بتسريبها للعدو من اجل قتل هؤلاء الجنود. كما لم يقدم أي من عشاقها أي افادة حول طلبها أو تساؤلها عن سير الحرب ولكن أعضاء المحكمة المجنونة كانوا غير مستعدين للاقتناع بأي شيء سوي إن تكون راقصة الإغراء جاسوسة وليس غير.
المحاكمة
وفي 24 يوليو 1917 بدأت محاكمة ماتا هاري: في جلسات مغلقة بقصر العدل بباريس، لكن كان قرار إدانتها قد صيغ عمليا علي أساس ملف التحقيق، وهذا ما عبر عنه الكاتب بول عندما لخص الشعور العام الفرنسي بقوله: لا أحد يعرف ماذا فعلت ماتا هاري، واذا تم طرح سؤال بهذا الخصوص علي انسان عادي او علي مثقف فسيبدو أنه لا أحد يعرف شيئا لكن هناك قناعة بأنها مذنبة، دون معرفة لماذا . وهناك من يقول بأنها لم تكن سوي امرأة مال بها الزمان فتحولت الي مهنة حقيرة لتعيش من ورائها.
لقد استمرت محاكمة جاسوسة القرن يوما ونصف اليوم. وفي الخامس عشر من اكتوبر في عام 1917. وارتدت ماتا هاري التي كانت تبلغ من العمر 41 عاما قفازات طويلة وصلت الي مرفق اليدين مع معطف ازرق داكن. انطلقت تتمايل بتغنج امام حظيرة الإعدام وتحرك ردفيها بتلك الطريقة التي طالما أثارت الكثير من العسكر ممن كانوا يحضرون حفلاتها الراقصة، وذهب البعض للقول إنها أرسلت في الهواء قبلاتها للجنود الذين كانو يصوبون بنادقهم نحوها لتنفيذ حفلة الإعدام التي حضرها جمهور غفير.
لم تكن تلك المرة الأولي التي تستعرض بها ماتا امام الجنود لكنها كانت المرة الأخيرة.
ترجمة وإعداد - عبد الكريم المالكي
عن الديلي إكسبريس