صـــــــانع الجواســـــــــيس
--------------------------------------------------------------------------------
من هو اشهر رجل مخابرات فى العالم اجمع بلا منازع؟
لو انك طرحت هذا السؤال على اية شريحة من البشر ، فى اية دولة من دول العالم ، لحصلتت بسرعة على اول جواب يقفز الى الاذهان واول اسم عند الحديث عن عالم المخابرات
اية مخابرات
(جيمس بوند)..............
فذلك الجاسوس البريطانى الذى يحمل رقم 007 مع تصريح بالقتل ويرتكب كل خطايا وموبقات الدنيا فى سبيل التاج ، صار منذ الخمسينات وحتى الآن اشهر جاسوس تتداول اسمه الالسن وتربح منه السينما الملايين والملايين كل عام
الكل يعرفه
ويحفظ اسمه ورقمه عن ظهر قلب ......
ولكن قليلين فقط من يعرفون اسم مبتكره ( ايان فليمنج ) ..............
والاقل جدا ... بل والندرة ، هم من يعلمون ان ( فليمنج ) نفسه كان جاسوسا مدهشا ورجل مخابرات لا يشق له غبار و لاتفشل واحدة من خططه وافكاره المبتكرة قط ....
و (ايان فليمنج ) هذا ولد لابوين بالغى الثراء من ابناء الطبقة الارستقراطية الانجليزية وقضى الشطر الاكبر من عمره كطالب مواظب انيق الملبس والاسلوب الا انه اشتهر دائما بالنشاط الزائد والانخراط فى كل الانشطة الممكنة من جماعات الخطابة الى الكشافة البحرية ، كما اظهر ميلا ملحوظا للمغامرة والمخاطرة وخاصة فى فترات المعسكرات الصيفية والرحلات الخلوية ...
ولكن كل هذا لم يشفع له فى النجاح اوالتفوق اذ انه وعلى الرغم من كل هذا النشاط كان يعانى كسلا بالغا كلما تعلق الامر باستذكار دروسه واداء واجباته حتى انتهى به الامر بالفصل من المدرسة الداخلية الفخمة التى الحقه بها والده بسبب مغامراته التى تجاوزت كل الحدود المعقولة ..
ولان والدته كانت انجليزية عريقة من طراز لا يقبل الفشل فقد قررت ان تلعب دور الاب والام معا بعد وفاة زوجها واجبرت ( ايان) على الالتحاق باحدى الكليات العسكرية التى قبلته بين صفوفها احتراما لذكرى والده ولوساطة اقرباء امه الذين يحتلون كلهم مكانة سياسية رفيعة ....
والتحق بالكلية العسكرية البريطانية الا ان هذا كان اخر شئ يناسب طبيعته اذ لم يلبث ان عاد الى عبثه ومغامراته وتورط فى مشكلة عاطفية مع زوجة قائد الكلية مما دفع هذا لاخير الى فصله بلا رجعة ...
وهكذا استقر الحال بالشاب المغامر فى شركة السمسرة والاوراق المالية التى تمتلكها اسرته والتى مازلت تحمل لقبها حتى يومنا هذا فى بورصة الاوراق المالية فى لندن ..
كان هذا فى صيف 1939م عندما بلغ (فليمنج ) ال31 من عمره وحصل على منصبه الرفيع فى الشركة ...
والعجيب ان (فليمنج )قد حقق نجاحا مدهشا خلال فترة عمله القصيرة ووضع بعض الافكار المبتكرة التى ضاعفت الارباح مرتين قبل ان يمل العمل المكتبى ويقدم استقالته الى امه التى جن جنونها وحاولت منعه من هذذا واقناعه بالعودة الى الشركة وواصلة خطة زيادة الارباح الا انه فر من لندن كلها هربا من مواجهتها وراح يقضى بعض الوقت فى منزل تمتلكه الاسرة فى ( ليفربول )...
والعجيب ان قراره هذا كان مدخله الى عالم المخابرات الذى قدر له ان يضع عليه بصمته ويحفر فيه اسمه بحروف من ذهب....
ففى (ليفربول ) القى بصديق قديم لاسرته وهو الادميرال ( جون جودفرى) الذى كان يشغل فى تلك الفترة منصب رئيس المخابرات البحرية البريطانية والذى لفت الشاب انتباهه بنشاطه الجم وذكائه الواضح وعقليته الابداعية الخلاقة ..
ولان (جودفرى) كان على ثقة فى ان الحرب اتية بلا ريب فقد وضع (فليمنج ) فى راسه وراح يدرس تصرفاته واسلوبه طوال فترة وجودهما معا فى (ليفربول ) ثم لم يلبث ان واجهه ذات صباح قائلا :
(ايان) هل تعلم فيم اعمل بالضبط ؟
ابتسم الشاب ابتسامة خبيثة وهو يجيب :
لا اعتقد ان هذا يخفى على احد ياأدميرال .
بدا له وجة (جودفرى ) صلبا صارما جامد الوجة والملامح كعادته وهو يقول :
هل ترغب فى العمل معى اذن ؟!
اجاب الشاب فى سرعة :
ومن يمكن ان يرفض امرا كهذا ؟!
وهكذا بتلك البساطة صار طالب الكلية العسكرية المفصول وسمسار البورصة السابق يحمل رتبة ضابط فى البحرية ....
ولقب رجل مخابرات بريطانى
وما ان اندلعت الحرب العالمية الثانية حتى تفجرت كل المواهب الخلاقة فى اعمال ( فليمنج ) وكل الافكار المجنونة .......
فى البداية خيل للأدميرال ( جودفرى) انه قد اساء الاختيار ووقع على ارستقراطى مخبول لا تتفق افكاره قط مع الواقع والعقل ...
ولكنه انتبه فجاة الى ان ( فليمنج ) هذا رجل مخابرات عبقرى وانه ماخلق الا لهذا المضمار بالذات ...
فكل افكاره كانت تصدم سامعيه فى البداية ث لا تلبث ان تجد صدى فى عقولهم وتقفز بعدها لتحتل مكانة لا مثيل لها فى عالم الابتكار والنجاح ..
ولعل ابرز هذه الافكار كان الاذاعة الالمانية الموجهة...
فطوال فترة الحرب كان الالمان يستمعون الى اذاعة المانيا ناطقة بالعامية تنقل اليهم اخبار قادتهم وجبهتم على نحو يوحى بان فريقامن جنرالات الجيش المعارضين للنازية هم من يبثها من مكان مجهول داخل (المانيا ) وخاصة مع خطبها التى تدعو لرفعة (المانيا) وتهاجم الحلفاء وقادتهم الى الحد الذى وصفت فيه رئيس الوزراء البريطانى (وينستون تشرشل) بانه يهودى بدين مصاب بالامراض التناسلية واشبه بالخنزير المريض...
وربما كان هذا الوصف وما يشبهه هو السبب فى كل ما تصوره الالمان عن تلك الاذاعة المجهولة والسبب فى ارتباطهم بها بشدة دون ان يخطر ببال احد حتى قادتهم انفسهم انها اذاعة بريطانية بحة يتم بثها من قلب (لندن) تحت اشراف (فليمنج) نفسه الذى كان يدس السم فى العسل يوميا وتسلل الى اعماق الروح المعنوية الالمانية لينسفها نسفا من خلال قصص ملفقة عن قادة الالمان وساستهم وعن الجنرال المسرف الذى ابتاع لصديقته معطفا من الفراء يكفى ثمنه لاطعام لواء كامل والآخر الذى ترك المعركة على الجبهة الروسية لينعم بالدفء فى البلقان تاركا جنوده يغرقون فى الجليد= حتى آذانهم واقدامهم تتجمد فى البرد ....و.....و.......
والطريف ان (فليمنج) قد تعرض للمساءلة بسبب وصفه للساسة البريطانيين والذى يبدو بذيئا للغاية عندما يلقى بالعامية الالمانية الا انه دافع عن نفسه بانه لو لم يفعل هذا لما استطاع جذب الالمان الى سماع اذاعته او اقناعهم بكل ما يدسه لهم من اخبار ...
وانتهى التحقيق بحصوله على مكافأة سخية واطلاق يده فى نسج المزيد من تلك الافكار المجنونة...
وهذه النقطة الاخيرة كانت اكبر مكافأة حصل عليها (فليمنج) فى حياته كلها ..
ان تطلق يده فى الافكار و الابتكارات ....
مهما بلغ جنونها ....
ومن هذا المنطلق بدأ( فليمنج ) عملية جديدة اطلق عليها اسم (العراف) ...
ولقد اعتمدت هذه العملية على دراسة شخصية (رودلف هيس) نائب (أدولف هتلر ) الذى يبدى اهتماما دائما بعلم الفلك وقراءة الطالع ثم الاستعانة باثنين من علماء الفلك السويسريين الذين تم تجنيدهم لحساب المخابرات البريطانية لتقديم النصائح وقراءة الطالع بصورة دائمة للنائب (هيس)
وعلى نحو كان يعده (فليمنج) بنفسه بحيث أصبح (هيس) على اقتناع شديد بأن اللحظة الحاسمة قد حانت وبأنه لو سعى للسلام فسيصبح أعظم رجال القرن على الأطلاق ...
وكان كل هدف (فليمنج) هو أن يزرع بذرة الشقاق بين (هتلر ) ونائبه بحيث يؤدى هذا الى تفتيت الجبهة النازية وضعف قيادتها وانهيارها فى النهاية ............
ولكن يبدو ان خطة الشاب كانت بارعة اكثر مما ينبغى ...
فالأمر لم يقتصر على الشقاق فحسب وانما غامر (هيس) بأن استقل طائرته بنفسه ليهبط فى انجلترا ويدعو للسلام ولكن البريطانيين اسروه هناك وظل فى السجن كمجرم حرب حتى مات فى عام 1989م ....
وفى أواخر 1941م تم نقل(فليمنج) الى محطة المخابرات البريطانية فى(نيويورك) كمحاولة لاقناع (أمريكا(بدخول الحرب ...
ولأن الامريكيين لا يقدمون شيئا بدون مقابل فقد طلبوا من (فليمنج) أثناء وجوده فى (نيويورك) أن يتعاون مع رجلهم (وليام دونوفان) مستشار الرئيس الامريكى (روزفلت) لوضع بذرة انشاء وكالة استخبارات كانت تواة جهاز المخابرات الامريكية المركزية الحالى ...
ولكن (فليمنج) بكل ما يتمتع به من نشاط وحب دائم للمغامرة لم يكن من الممكن ابدا ان يكتفى بهذا الدور البسيط فى عالم المخابرات من وجهة نظره لذا فقد نجح فى التسلل الى العالم السفلى فى (نيويورك) وجند عدا من المجرمين واللصوص وخبراء فتح الخزائن للعمل لحسابه ثم استخدمهم لفتح خزانة معدنية خفية فى مكتب القنصل العام اليابانى ليقوم هو بتصوير كل اوراق رموز الشفرة السرية داخلها ...
ولقد كانت مفاجأة مذهلة للبريطانيين أن تصلهم هذه الشفرة التى بذلوا جهدا خرافيا فى السابق للحصول عليها دون ان يطلبوا من (فليمنج) هذا ....
ودون ان يعاونه اى من رجالهم ...
وكالمعتاد تم التحقيق معه لاستعانته بمجرمى ولصوص الشوارع وتعرض للوم والتقريع كالمعتاد ولكنه دافع عن نفسه بأن هؤلاء القوم لا يشغلون رءوسهم بالسياسة وتعقيداتها ثم انهم تصوروا طوال الوقت انهم جزء من عملية تجسس صناعية وليست سياسية ...
وكان من العسر ان يعاقب بعد عملية ناجحة كهذه لذا فقد اكتفى رؤساءؤه بتوجيه اللوم اليه واعادته الى لندن ليواصل عمله وافكاره المجنونة هناك ....
وفور عودته الى الوطن اغلق على نفسه باب مكتبه وراح يعد اكبر فكرة مجنونة فى حياته ...
وبعد اسبوع كامل من الدراسة والتفكير خرج (فليمنج) لرؤسائه بفكرة انشاء الوحدة (30)....
وهذه الوحدة هى فرقة خاصة من الكوماندوز تتبع الخابرات البحرية مباشرة ويتم تدريبها على نحو خاص للغاية بحيث يمكنها القيام بعمليات مستحلية خلف خطوط العدو ...
وفى ذلك الحين كانت الفكرة عجيبة بالفعل ...
ومجنونة الى اقصى حد ....
ولكنها ككل افكاره وجدت صدى خاصا فى نفوس الجميع وخاصة مع دراسة مدى الفائدة الجمة التى يمكن ان تعود من انشاء وحدة كهذه ..
واخيرا صدر القرار ...
وولدت الوحدة (30)......
وطوال ما تبقى من زمن الحرب قامت الوحدة بعمليات انتحارية مدهشة لا يصدقها عقل خلف خطوط العدو ...
وبالذات فى الجبهة الفرنسية ...
ولعل اهم واخطر عملياتها التى تمت تحت قيادة (فليمنج ) مباشرة كانت عمليات (محطة الرادار)و (الأرشيف البحرى)..
ففى عام 1944م قاد (فليمنج) وحدته القتالية وهبط مهعها خلف خطوط العدو حيث قامت الوحدة بالسيطرة على محطة رادار المانية كبيرة ظلت ترصد الطائرات البريطانية وتحبط هجومها لفترة طويلة وتم الاستلاء عليها لفترة طويلة وتم الاستيلاء عليها بالكامل وأسر حاميتها المكونة من 40 ضابطا و 300جندى ونقلت معداتها كلها الى لندن حيث تمت دراستها واعادة تركيبها ...
وقبل ان ياتقط رؤساؤه انفاسهم من انبهارهم بتلك العملية المدهشة التى خسرت الوحدة خلالها فردا واحدا فاجأهم (فليمنج) بعملية (الأرشيف البحرى ) التى كادت تذهب بعقول الالمان والتى اثارت جنون (هتلر) نفسه ...
فمع معاناتهم من دقة وبراعة المخابرات البحرية الالمانية كان البريطانيون يبذلون جهدا مضنيا لكشف الجواسيس الالمان ودراسة اساليب تفكيرهم ومحاولة تحليل خططهم ونظمه والعمل على تجنيد بعضهم لقل مايمكن نقله من وثائقهم وسجلاتهم السرية الى البريطانيين ..
ولان(فليمنج) قد اعتاد التفكير باسلوب مبتكر مختلف خلاق فقد طرح سؤالا بدا بالغ الغرابة فى أول اجتماع عام :
لماذا لا تقوم الوحدة (30) بعملية انتحارية للاستيلاء على قسم الارشيف البحرى الالمانى بالكامل وعلى سجلاته التى تعود الى عام 1870م ؟!
ومع غرابة الفكرة وجنونها احتاج الامر الى اسبوعين كاملين من البحث والفحص والمناقشة والمراجعة قبا ان يوافق الرؤساء على الخطة ويصدر الامر بتنفيذها بعد ان قرر الخبراء ان الخسائر ستبلغ 40% على الاقل من وحدة الهجوم ..
وعندا اجتمع (فليمنج)بوحدته ابلغهم ان الخسائر ستبلغ 70% ثم طلب منهم قبول او رفض المهمة ووعدهم بعدم سؤالهم عن الاسباب .
ووافق الجميع فورا ...
وبلا استثناء ..
وبعقليته الخلاقة راح (فليمنج) يضع خطة الاستيلاء على الارشيف ووضع رسما لتوربين بحرى خاص تتم قيادته كالدراجة البخارية تحت الماء بحيث يمكن لرجاله بواسطته قطع مسافات طويلة تحت سطح البحر دون ان يمكن رصدهم ...
وفى (لندن) جلس (جودفرى) وفريق قادة المخابرات البحرية يحبسون أنفاسهم عندما انطلق (فليمنج) ورجاله لتنفيذ العملية ...
وراح الوقت يمضى ويمضى ويمضى دون ان تصل رسائل تشير الى نجاح او فشل العملية ...
واخيرا وفى الخامسة و سبع دقائق صباحا وصلت رسالة (فليمنج)...
رسالة مختصرة للغاية ..." نجاح تام ..الخسائر تساوى صفرا..."
وكان الخبر مذهلا حتى ان الرجال لم يمكنهم تصديقه حتى عادت الوحدة الى (لندن) بنفسها ..
لقد نجح (فليمنج) ورجاله نجاحا مذهلا واستولوا على كل سجلات البحرية الالمانية دون ان يخسروا رجلا واحدا ..
بل وحتى دون اصابة واحدة ..
وكان هذا اغرب من ان يحدث حتى فى الروايات الخيالية ..
او ربما كان فعلا قدريا مقصودا لتتويج اعمال (فليمنج) لانها كانت اخر عملية لهقبل ان تستسلم المانيا وتضع الحرب اوزارها ..
ومع نهاية الحرب عاد (فليمنج) يشعر بالملل مرة اخرى على الرغم من انه ظل يطرح افكاره المبتكرة ويقوم باعماله الخلاقة فى كل مكان تبلغه المخابرات البريطانية من شمال (أفريقيا) وحتى غرب (أسبانيا)..
ولكن لكل شئ نهاية ..
لقد استغنت المخابرات عن خدماته أخيرا ومنحته وساما ومكافأة كبيرة مع خطاب شكر يشير الى ما قدمه للوطن فى زمن الحرب ..
وهكذا عاد (فليمنج) الى شركة اسرته ليمارس اعمال السمسرة ويضاعف من ارباحها ..
الا ان هذا ظل بالنسبة اليه سخيفا مملا و مضجرا الى اقصى حد ..
لذا فقد راح يشغل نفسه بكتابة روايا عن الجاسوسية بطولة عميل سرى خاص منحه اسم (جيمس بوند) وراح يغزل حوله الاساطير التى اقتبسها من خبراته السابقة ومن تاريخ حياة بعض الرجال الذين عرفهم فى حياته ومن خلال عمله ...
وحتى فى هذا فاق (فليمنج) الجميع وصارت الشخصية التى ابتكرها هى اشهر شخصيات عالم الرواية الخيال من اقصى العالم الى اقصاه وترجمت اعماله الى 16 لغة خلال عشرة اعوام فحسب ..
وفى عام 1964م وقبل ان يبلغ الـ56 من العمر مات (فليمنج) ميتة هادئة فى فراشه تاركا خلفه تاريخا مجيدا لا يعلم عنه العامة سوى ذلك الجزء المفرط فى الخيال فحسب والذى استحق بسببه ان يحظى بلقب استحق كل حرف منه عن جدارة ...
لقب صانع الجواسيس ....