الأولوية للتجسس
بعد عدة دقائق فقط من جلوسه خلف مكتبه الجديد استدعى أميت رؤساء الدوائر. لقد اصطفوا أمامه، ونظر إليهم بهدوء واحدا بعد الآخر، ليقول لهم بعد ذلك أنه لن تكون هناك بعد آلان مهمات البحث عن أطفال، وأعطى الأولوية للتجسس.
وبعد فترة قصيرة من استلام أميت منصبه حضر إلى السفارة الإسرائيلية بباريس شخص قدّم نفسه باسم «سلمان». وقال أنه يمكن أن يقدم، مقابل مليون دولار، إحدى الطائرات المقاتلة الأكثر مضاء آنذاك أي «الميغ-21». وختم سلمان حديثه بالجملة الغريبة التالية: «ما عليكم سوى إرسال أحدهم إلى بغداد. وهناك يقوم بالاتصال بهذا الرقم ويطلب جوزيف، ولا تنسوا تحضير المليون دولار».
عرض الدبلوماسي مضمون المحادثة على جاسوس إسرائيلي موجود في السفارة حافظ على موقعه رغم التغييرات التي قام بها مائير أميت. وأرسل الجاسوس بدوره المعلومات إلى تل أبيب مع رقم الهاتف الذي أعطاه «سلمان».
حيّرت القضية أميت، فمن جهة هناك خشية أن يكون سلمان عميلا مزدوجا جندته الاستخبارات العراقية من أجل نصب فخ للموساد. وهناك خطر الكشف عن عملاء الموساد في العراق. لكن كان إغراء الحصول على الميغ-21 كبيرا أيضا، إذ كان مسؤولو الطيران الإسرائيليون على استعداد لدفع ملايين الدولارات للحصول على المعلومات الخاصة بها.
قال أميت نفسه حول تلك القضية: «كنت أفكر بها قبل أن أنام وحالما أستيقظ، وكل الأوقات بينهما عندما تكون لديًّ دقيقة فراغ. فمعرفة السلاح المتقدم للعدو هي أولوية بالنسبة لكل جهاز استخبارات، والحصول على طائرة من هذا النوع أمر شبه مستحيل». اختار أميت للعميل الموفد إلى بغداد اسما وجواز سفر بريطانيين:
جورج بيكون الذي ذهب بصفة مدير مبيعات في شركة لندنية مختصة بتصنيع أجهزة التصوير الشعاعي الطبي. وصل إلى بغداد بطائرة تابعة للخطوط الجوية العراقية ومعه عدة صناديق من العينات، بل وأظهر كفاءة عالية حيث باع عدة أجهزة لمستشفيات عراقية.
في بداية الأسبوع الثاني لإقامته اتصل بيكون بالرقم المعني. وينقل عنه المؤلف قوله: «اتصلت من هاتف مدفوع الأجر في بهو الفندق. ذلك أن خطر التنصت أقل مما هو في الغرفة. رفع أحدهم السماعة عند الرنّة الأولى وسأل بالفارسية عن المتحدّث.
فأجبت بالإنجليزية معتذرا بغموض وكأنني قد أخطأت بالرقم. فطلب مني المتكلم - بالإنجليزية هذه المرّة - الافصاح عمّن أكون. فقلت إنني صديق لجوزيف، وهل يعرف أحدا بهذا الاسم؟ فرجاني الانتظار. قلت لنفسي إنهم يحاولون الآن تحديد موقع الهاتف الذي أتحدّث منه وأنني ربما وقعت في الفخ. لكن شخصا ودودا قال لي أن اسمه جوزيف وأنه مسرور لاتصالي. وسألني إن كنت أعرف باريس. كان هو الشخص المقصود قلت لنفسي».
جرى اللقاء ظهر اليوم الثاني في أحد مقاهي بغداد. يقول بيكون عن اللقاء: قال لي جوزيف أنه مسرور لرؤيتي (...). وتحدث عن المطر والطقس الجميل (...). فهمت أنه ليس عميلا في جهاز مكافحة التجسس، فهدأت انفعالاتي، وقلت له أن أصدقائي مهتمون جدا بالسلعة التي تحدث عنها صديقه.
فأجابني: «سلمان ابن أخي. يعيش في باريس كنادل في مقهى. جميع الندل الجيدون غادروا». ثم اقترب من الطاولة وأضاف: «أنت هنا من أجل الميغ؟ أستطيع جلبها لك. لكن هذا كلفته مليون دولار».
ثم طلب العجوز عدم التحدث حيث هما، وحددا موعدا في أحد الأماكن العامة على ضفة الفرات في اليوم التالي. لم تغمض عينا «بيكون» تلك الليلة بسبب هاجس أن فخا قد نُصب له إمّا من قبل الاستخبارات العراقية وإمّا من قبل عصابة من المحتالين الدهاة.
قدّم له موعد اليوم الثاني إيضاحات أكثر عن شخصية جوزيف ودوافعه. إنه ينتمي في الأصل إلى عائلة يهودية فقيرة.
عمل عندما كان فتى لدى عائلة مارونية غنية صرفته من الخدمة بعد 30 سنة من العمل. فوجد نفسه في الشارع وعمره 50 سنة. واعتراه وهو بتلك الحالة الحنين إلى جذوره اليهودية.
عبّر عن رغبته تلك لأخته المدعوة مانو التي كان ابنها منير قائدا لطائرة مقاتلة في سلاح الطيران العراقي. فأخبرته مانو بأنها تحلم هي أيضا بالهجرة إلى إسرائيل. لكن كيف؟
بقيت الفكرة في ذهن جوزيف، وسمع منير يردد أمامه عدة مرّات أثناء الطعام أن رئيسه لا يكف عن القول بأن الإسرائيليين مستعدون لدفع مليون دولار من أجل إلقاء نظرة واحدة على طائرته. هكذا رسخ مبلغ المليون دولار في رأسه.
وفكر جوزيف بهجرة جماعية تترك الأسرة كلها في اطارها العراق دفعة واحدة. كان منير شديد التعلق بوالدته وعلى استعداد لفعل أي شيء من أجلها، وقد يقبل الفرار بطائرته. أما بقية أفراد العائلة فيتكفل العملاء الإسرائيليون بذلك، وهم أصحاب خبرة كبيرة في هذا الميدان. وضمن هذا الإطار ذهب «سلمان» إلى السفارة الإسرائيلية بباريس.
«ومنير؟ هل هو على اطلاع؟» هكذا سأل بيكون فأجاب جوزيف: «بالتأكيد. وهو موافق على الهرب. لكنه يريد نصف المبلغ حالا والنصف الآخر قبيل الرحيل». اندهش بيكون، فكل ما سمعه بدا ممكنا وقابلا للتحقيق. لكن ينبغي عليه أولا تقديم تقريره إلى مائير أميت. سأل هذا الأخير بعد لقاء استمر نصف يوم كامل مع بيكون عند عودته وشرح خطة جوزيف كاملة. «لكن، أين يريد أن يتم الدفع؟»، «في أحد البنوك السويسرية».
فأردف أميت: «يبدو أن جوزيف هذا لاعب ماهر، وعندما نضع المال على الحساب لن نراه بعد ذلك. فما الذي يدفعك للثقة به؟» «أثق به، إذ ليس هناك خيار آخر. فأمر «أميت» بوضع نصف مليون دولار في بنك سويسري «كريدي سويس».كان الرهان دقيقا، وليس فقط على الصعيد المالي، إذ كان يعرف أنه لن يبقى على رأس الموساد إذا تكشف أن جوزيف محتال كما يتوقع بعض العاملين معه.
الميغ التي اختفت
أخطر أميت كلاً من بن غوريون وإسحاق رابين رئيس الأركان، فأعطيا الضوء الأخضر. فأخبرهما أميت أنه سوف يسحب جميع عملاء الموساد في العراق.
قال: «في حالة الفشل، ستكون رأسي وحدها التي ستطيح. لقد شكّلت خمسة فرق. الفريق الأول مسؤول عن الاتصال بين بغداد وبيني. والتعليمات الموجهة له تنص على التزام الصمت الكامل إلا في حالة وقوع أزمة كبيرة. بتعبير آخر لم أكن أريد التحدث عن هذا الفريق تحت أية حجة كانت.
وكان على الفريق الثاني الذهاب إلى بغداد دون أن يكون أحد على علم بذلك، لا بيكون ولا عناصر الفريق الأول، فعلا لا أحد. وتمثلت مهمته في إخراج بيكون إذا حدث خلل وأيضا جوزيف إذا أمكن ذلك. والفريق الثالث مهمته أن لا تغيب عائلة جوزيف عن ناظريه. والفريق الرابع مهمته جلاء المعنيين. وكان على الفريق الخامس تأمين الصلات مع واشنطن والأتراك.
كان ينبغي على طائرة الميغ اختراق الأجواء التركية بعد مغادرة العراق قبل أن تحط عندنا. وكان ينبغي على الأميركيين الذين يمتلكون قاعدة في شمال تركيا، دفع الأتراك للتعاون عبر القول لهم أن الطائرة موجهة إلى الولايات المتحدة. وكان قد تمّ إخباري بأن العراقيين، بدافع خشية هروب أحد طياريهم، لم يكونوا يملؤون خزانات وقود طائرات الميغ إلا نصفها. وهذا ما كان باستطاعتنا أن نفعل شيئا حياله».
انطلقت العملية بعد ذلك. وحصل ابن عم جوزيف على السماح له بالخروج بحجة العلاج إلى جنيف. وعندما وصل إليها بعث ببطاقة بريدية إلى بغداد قال فيها: «المنشآت الصحية ممتازة، وأنا متأكد من أنني سوف أتوصل إلى الشفاء الكامل». كانت تلك هي الإشارة المتفق عليها للتأكيد أنه جرى ايداع مبلغ نصف المليون دولار الثاني في رقم الحساب المعني في سويسرا.
أعلن جوزيف، بعد أن اطمأن إلى وصول المبلغ كاملاً إلى الحساب السويسري، للعميل الإسرائيلي «بيكون» أن جميع أفراد أسرته جاهزين للسفر. فعشية المهمة الأخيرة التي كان منير سيقوم فيها للتدرب على طائرته المقاتلة قادهم جوزيف كلهم في موكب إلى أحد الجبال «للاستمتاع بعذوبة المناخ».
لم تعترض القوات العراقية المنتشرة على عدة حواجز في الطريق على ذلك، إذ كان من المألوف أن يهجر العديد من سكان العاصمة حرارتها الشديدة كل صيف للذهاب إلى الجبال.
استقبل فريق الاتصال الإسرائيلي الذي كان موجوداً في المناطق الكردية أفراد عائلة جوزيف الذين جرى اقتيادهم إلى منطقة أخرى حيث كانت تنتظرهم طائرة هليكوبتر تابعة للجيش التركي. وكانت الطائرات تخترق الحدود من دون أية صعوبات عبر طيرانها على ارتفاع منخفض جدا بحيث لا يمكن لأجهزة الرادار أن تكتشفها.
اتصل أحد عملاء الموساد بمنير كي يخطره بأن أخته قد ولدت طفلة وأن كل شيء تم على ما يرام، كانت تلك رسالة مشفرة جديدة تعني أن عملية ترحيل أفراد العائلة قد اكتملت تماما.
في صباح اليوم التالي الذي صادف الخامس عشر من شهر أغسطس 1966، ومع شروق الشمس أقلع منير بطائرته في مهمة اعتيادية. وما إن ابتعد عن القاعدة حتى زاد قوة محركات طائرته الميغ إلى أقصى حد ممكن وبلغ الحدود التركية قبل أن يتم اتخاذ أي إجراء ضده، بما في ذلك احتمال إسقاط طائرته.
ومع اجتيازه الحدود التركية رافقت طائرته عدة طائرات من طراز فانتوم تابعة للسلاح الجوي الأميركي. لقد حطّ منير بطائرته في إحدى القواعد التركية حيث جرى تزويدها بالوقود وأقلع من جديد، وعندها تلقى رسالة جديدة صريحة وغير مشفرة جاء فيها: «عائلتك في مكان آمن وسوف تلحق بهم بعد فترة قليلة». حطت طائرة الميغ-21 بعد ساعة في أحد المطارات العسكرية الإسرائيلية.
هكذا نجح جهاز الموساد في أن ينال شهرة على صعيد التجسس. كانت تلك مرحلة مفصلية في مسيرة هذا الجهاز الذي كان قد غدا ذا باع طويل في عالم العمليات السرية.
تأليف :غوردون توماس
عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف
البـيان