من المفارقات المثيرة في حياة «عمر الناصري» (اسم مستعار) أنه أدرك فور وصوله الى مشارف أفغانستان وقبل ولوجه ديار العرب المجاهدين هنالك، أن في يديه رصيداً حقيقياً هو أمين وياسين اللذان عرفهما هنالك في بلجيكا وهما يهربان السلاح والمتفجرات للمتطرفين الجزائريين.
على رغم أن الرجلين لم يصارحاه بأنهما تدربا في أفغانستان وانهما على صلة وثيقة بالمجاهدين، إلا أنه استنتج من تحركاتهما ولياقتهما أنهما شخصان استثنائيان، فقرر أن يجرب نفوذهما، فكانا بحق مفتاحاً له إلى المعسكرات، التي غالباً ما يحتاج البعض شهوراً للوصول إليها، وبعد الخضوع لاختبارات قاسية.
في جبال أفغانستان
بعد أن فشل جيل في التخلص من الناصري ونجاح الأخير في إثبات عمالته رسمياً لدى جهاز الاستخبارات الفرنسي الأم، كلفه جيل بمهمة في تركيا لتحييده عن التأثير، كما يرى الناصري.
لكن هذا الذي تنبه لكل خطوات جيل فضل بعد أسابيع في تركيا أن يتقدم نحو الجبهة في أفغانستان. المنجم الذي كان يشغل ما في داخله فضول الغربيين في فترة انفض فيها سامر الجهاد الأفغاني.
وافق جيل على المقترح لكنه لم يكن واثقاً من قدرة الناصري على النجاح في مهمة شاقة كتلك، فنصحه بعدم الذهاب. إلا أن الناصري أصرّ على أن يجرب حظه، فشرب آخر كأس ودخن آخر سيجارة في تركيا... وغادر إلى باكستان.
هنا حلقة ثالثة أخيرة من المذكرات التي تصدر كاملة عن مكتبة العبيكان في الرياض:
أول من تلقى «عمر الناصري» في باكستان بالأحضان «جماعة التبليغ» التي تمكن في أول خروج له معهم أن يزيدهم أنصاراً. ما جعلهم يتمسكون به أكثر، إلا أنهم لم يكونوا المجاهدين الذين يبحث عنهم.
مضى حتى قاده حظه إلى شخص يعرف ياسين وأمين، ليوصله إلى الخطوة الأولى التي انتهت به في غضون أسبوعين إلى معسكر «خالدان» العربي، في صحبة الدليل.
بإيعاز من الدليل أوقف السائق السيارة وسمح لنا بالنزول (بعد تجاوز الحدود الباكستانية - الأفغانية) ومن هنا، تابعنا الطريق، الدليل وأنا، سيراً على الأقدام عبر احدى القرى وبدأنا نتسلق التلال. ومع متابعتنا السير زاد الدليل من سرعته على نحوٍ مطرد، بعد قليل أصبحتُ عملياً في حالة عدو، كنت أعرف أنني ملزم عدم التكلم معه، فلم أستطع مطالبته بالإبطاء، بعد نحو كيلومترين كنت أعاني كثيراً وبدأت أتساءل عما إذا كان يحاول الهرب مني عمداً، لم أكن متأكداً قط من قدرتي على الثقة به.
بعد مدة صار بعيداً عني حتى بتُّ غير قادر على رؤيته، كنت وحيداً بين الصخور السوداء، بدأت أتساءل: أمن الممكن أن يعرف أنني جاسوس؟ أن تكون الأيام القليلة الأخيرة مكيدة مُحْكَمة لقتلي؟ تذكرت الفيلم الذي رأيته في مركز بومبيدو حيث قام المجاهدون بنصب كمين لرتل سوفياتي، وتساءلت عما إذا كان يتعين عليَّ أن استمر في اتباع الرجل، لم أكن أعرف شيئاً عنه، أو عن المكان الذي كان يأخذني إليه. للحظات فكرت بالعودة، ثم طردت الفكرة من رأسي، كنت هنا لسبب محدد، كان لابد من المثابرة مهما حصل.
كل هذا من أجل «الغداء»!
كنت أتصبب عرقاً جراء المشي بهذه السرعة في الجو اللاهب، وكانت ساقاي مرهقتين. توقفت لخفض رأسي وأخذ بعض النفس للتعافي، وحين رفعت رأسي، رأيت الدليل واقفاً على صخرة أمامي، ناداني: عجّل وإلا فاتتنا وجبة الغداء.
منذ تلك النقطة تابعنا معاً، انحدرنا عائدين في قلب أحد الأودية، كان المكان أشبه بواحة بين حشد من التلال السوداء، كان كل شيء أخضر وندياً، واستطعت أن أرى بريق الماء في الأفق البعيد.
فجأة، دويّ قوي، بام بام بام. لم أدرك سبب الدوي مباشرة، بعد قليل، أصوات أخرى. بوم بوم تات تات تات تات.
عندئذ أدركت ما كان يجري: رشاشات، مدافع، تفجيرات، قذائف مورتار، كشّر الدليل قائلاً: ها قد وصلنا يا أخ. هذا معسكر «خالدان». تلك كانت المرة الأولى التي أسمع فيها كلمة «خالدان».
تبعت الدليل انحداراً على سفح التلة إلى قاع الوادي حيث استطعت أن أرى بعض المباني المعششة في ممر ضيق بين جبلين عاليين. ثمة نهر كان ينحدر من الجبال ويتدفق على الوادي ويعبر المعسكر. إلى يميني كانت هناك فسحة واسعة، مستوية. وفي مكان مرتفع بعيداً إلى اليسار ثمة بقايا نوع من أنواع برج المراقبة.
توقفنا أمام المبنى الأول. التفت الدليل إليّ ونظر إلى عيني مباشرة وأمرني وهو يشير إلى قدمي: ابق واقفاً هنا. أرادني أن أتسمر في المكان ذاته ثم ركض مع الممر واختفى خلف المبنى.
لم تكن لدي أي فكرة عما كان سيحصل، دليل لم أكن أثق به تركني واقفاً هنا وحدي. لم أكن رأيت أي شخص آخر على امتداد كيلومترات. ما الذي كان القدر يخبئه لي هنا. كنت بالغت في المخاطرة بحياتي. لم يكونوا ليجدوا أي صعوبة في اكتشاف حقيقة كوني جاسوساً. غير أنني عدت لأحاكم بنفسي قائلاً: لو كانوا يريدون قتلي لاستطاعوا ذلك في بيشاور، أو حتى قبل ذلك، كان أبو أنس قادراً على قتلي في لاهور.
لعلعة الرصاص اختطفتني من أحلام اليقظة. تات تات تات. من هذه البقعة في قلب الوادي السحيق استطعت أن أسمع أصداء الطلقات تتردد بين الجبال، كل انفجار كان يتضاعف في الجو مع صداه الخاص. بانغ بانغ بانغ.
كنت قادراً على الإحساس بالتفجيرات في جسدي. بدأت أعيش الرعشة الأولى ذاتها التي أحسست بها حين أطلقت النار مع إدوار للمرة الأولى. أدركت أنني حلمت بهذه اللحظة قبل سنوات. كنت بين جبال أفغانستان وكان إطلاق النار من حولي في جميع الجهات تات تات تات تات. طردت من رأسي الأفكار السوداء، وأيقنت أنني بلغت هدفي. كنت جاهزاً للشروع في جهادي.
الجاسوس المجاهد «أبو إمام»
لم يستغرق وقوفي هناك أكثر من خمس دقائق حين جاء إليّ رجل وهو يعدو. كان صغير السن، في أوائل ثلاثينياته. كان يحمل رشاش اقتحام بيده اليمنى، بدا الرشاش كلاشنكوفاً، وإن أكثر لملمة. جسم الرجل كان مشدوداً على نحو لا يصدق، قوياً، وكان يتحرك مثل القطط، بهدوء ولكن بقدرٍ هائل من الدقة.
كنت بالغ التأثر بحضوره الجسدي الاستثنائي إلى درجة أنني لم أنتبه، حتى بات واقفاً أمامي، إلى أنه كان قصير القامة، ربما 165 سنتيمتراً، لا أكثر. وقف الرجل وقال: السلام عليكم! عليكم السلام. ثم أخذ كيسي من يدي ورماه على الأرض. في حركة واحدة بالغة السرعة فتش جسدي كله بلمسة يده الخفيفة. حركاته كانت دقيقة، موزونة. العملية كلها لم تستغرق أكثر من ثانيتين.
تحت السروال والقميص اكتشف حزامي الذي كان يحتوي على جواز سفري وأموالي. أخذ الحزام مني وسأل: معك شيء آخر؟
قلت لا، عد النقود أمامي. قال لي إنه كان سيعطيني لاحقاً ورقة أوقعها بشأن حوائجي. ثم وضع يده على ساعدي وسأل: ما اسمك يا أخ؟
قلت: عمر الناصري.
فوجئ، تراجع خطوة. عاود السؤال: أهو اسمك الحقيقي؟
شعرت بالدم يصعد إلى وجهي. خجلت من نفسي. كنت أجبت غريزياً. لم أكن بعد قد تآلفت مع اسمي الجديد، وهذا الرجل العجيب كان قد أربكني. سارعت إلى تصحيح خطئي ورحت أتمتم: اسمي أبوبكر. ابتسم وقال: ذلك الاسم أخذه أخ آخر، سيتعين عليك أن تختار غيره.
فكرت لثانية ثم سألت: ما رأيك باسم أبو إمام؟ قال: موافق، ذلك رائع. ثم اقتادني إلى داخل المجمع، بعد سلسلة من المباني وأنا أتبعه، لاحظت ثانية كم كانت خطواته وحركاته محكمة وموزونة. كان جسده مشدوداً مئة في المئة، مثل أسد يتهيأ للانقضاض.
قادني إلى داخل مركز المجمع، إلى مبنى من الطوب ذي سقف معدني. قال أن هذا هو المسجد، وأن علي أن أجلس هناك وانتظر قدوم الآخرين. قبل رحيله انحنى علي وتكلم بصوت هادئ ولكنه حاد محذراً: يجب أن تتذكر دائماً أنك هنا لأداء فريضة الجهاد. لست هنا للتحدث مع الآخرين. نحن لا نطرح أسئلة على إخواننا. لا نميط اللثام عن أي شيء حول أنفسنا. يجب أن تبقى مركزاً على رسالتك الجهادية.
أومأت موافقاً، وتابع يقول: كذلك يجب ألا تتكلم مطلقاً مع أي أفغاني. مع الأدلاّء، الحراس، الطباخين، ولا كلمة واحدة.
أومأت ثانية لأبين له أنني فهمت. ثم دار واختفى بالسرعة التي كان ظهر بها، وقدماه تلامسان الأرض برفق مثل أقدام راقصي الباليه.
جلست وحدي في المسجد وتركت الجو المظلم الندي يغمرني. شعرت أن جسدي ارتاح قليلاً. عيناي لم تعودا تدمعان من الشمس الحارقة. تواصلت أصداء الانفجارات وأصوات إطلاق النار مترددة في الجبال، غير أنني كنت بدأت التآلف معها. بعد دقائق هدأ كل شيء فجأة، ساد المسجد صمت كامل: لا طيور تصدح، لا قنابل تنفجر، لا شيء. كنت قادراً على سماع صوت تنفسي ونبض قلبي اللذين كانا يتباطآن بعد كل هذا الفيض من الرياضة والقلق.
فجأة فتح الباب بجلبة صاخبة. خمسة رجال عمالقة تسللوا إلى المسجد. كانوا جميعاً في العشرينيات، من ذوي البشرة البيضاء والعيون الشهلاء. مع كل منهم رشاش كلاشنكوف علقه على صدره، وحزام مثقل بالقنابل اليدوية والذخائر. كانت عيون الجميع مطوقة بالدوائر نفسها التي كنت رأيتها لدى أمين وياسين.
حين رآني الرجال جالساً ابتسموا واقتربوا مني. استطعت أن أفهم من لهجتهم أنهم من الشيشان، فتحدثت معهم بالإنكليزية. قدموا أنفسهم بالأسماء التي كانوا اعتمدوها: أبو أنس، أبو عمر، وأبو... تبادلنا التحية بالطريقة النموذجية، ملامسة الكتف بالكتف. استطعت أن أحس بالقوة الوحشية الكامنة في أجسادهم.
كان الوقت صلاة الظهر، وما لبث المسجد أن بدأ يزدحم، استطعت أن أدرك من وجوههم أن هؤلاء الرجال كانوا من أنحاء عدة في العالم: من شمال أفريقيا، من الشرق الأوسط، من آسيا الوسطى.
وفيما كانت الصلاة موشكة على البدء، تذكرت أنني لم أكن متوضئاً. درت إلى من كان بجانبي وسألته عن الحمام. أمسك بذراعي برفق ورافقني إلى خارج المسجد عبر فضاء مكشوف نزولاً إلى ضفة النهر، ثم أشار إلى مجموعة من الأكشاك بين صخور كبيرة. طلب مني أن آخذ سطل ماء من النهر وأتوضأ هناك. غمست يدي في الماء، مع أن الشمس كانت حارقة، فإن الماء كان بارداً كالثلج. أدركت أن الماء آت مباشرة من الثلوج المتراكمة على الجبال. بعد انتهائي من وضوئي، عدت إلى المسجد لإقامة الصلاة. لاحظت أن أولئك الذين كانوا متنكبين الكلاشنكوفات كانوا قد وضعوا أسلحتهم على الأرض بين أرجلهم في أثناء الصلاة. وما إن انتهينا حتى وقف الرجل الذي استقبلني عند وصولي إلى المعسكر ليقدمني إلى الجماعة وقال: هذا أبو إمام. إنه أخوكم. التحق اليوم بجهادنا.
ابتسمت لجميع الرجال الذين رحبوا بي في المسجد وهتفوا: ما شاء الله! ما شاء الله! ما شاء الله!
غادرنا المسجد ومشينا باتجاه المقصف الذي كان في المبنى الأول الذي كنت رأيته عند مدخل المعسكر. كان المبنى حجرياً إلا أن السقف من أغصان الأشجار اليابسة التي بدت أشبه بسعف النخيل. كنت رأيت هذه الشجيرات على الطريق إلى المعسكر. من الداخل كان السقف مبطناً بصفحات النايلون لاتقاء المطر.
جلسنا جميعاً على الأرض وتناولنا نوعاً من الشوربة المصنوعة من الفاصولياء. كان الطعام مقززاً، غير أن الجوع كان قد هدني فأكلت. وحين انتهينا من وجبتنا جاءني رجل آخر وطلب مني أن أتبعه. ناولني كيس نوم رقيقاً وعدداً من البطانيات، ثم قادني عبر المعسكر إلى مجموعة من المباني الصغيرة، واقتادني إلى داخل أحدها. أبلغني أن هذا مكان نومي. نظرت حولي ورأيت أن عدداً من الأشخاص يقيمون هنا أيضاً. حوائجهم كانت مضبوطة بعناية ومركونة إلى جدران الغرفة. لم تكن ثمة أي أرضية ممهدة، فقط الأرض القاسية للجبال الأفغانية.
مساءً، بعد العشاء، توزعنا على مجموعات صغيرة للتدرب على التجويد، تلاوة القرآن. كنا مقسمين إلى مجموعات وفقاً لمستوى معرفتنا الروحية. جماعتي كانت تضم خمسة من الشيشان وجزائرياً. كنا جميعاً مبتدئين.
شرح لي أحد المتدربين أن الرجل الذي قدمني في المسجد كان أمير المعسكر، أبا بكر، ضحكت بيني وبين نفسي متذكراً أنني كنت، عن غير قصد، اخترت اسمه في بيشاور. ثم أفادني الرجل أن أبا بكر كان الأمير الوحيد في غياب ابن الشيخ، الذي كان سيتولى الامارة لدى عودته. بعد انتهائنا من دروسنا، تجمعنا ثانية في الساحة الرئيسية أمام المسجد. لفت أبوبكر أنظارنا. أعطى أوامره للحراس الليليين، وزودنا كلمة السر في تلك الليلة. ثم اختار أحد الإخوان ليتولى رفع الأذان فجر اليوم التالي.
ثم قام أبوبكر باستعراض أحداث النهار. من دون تسمية أحد على نحوٍ مباشر، امتدح إنجازات معينة وانتقد إخفاقات محددة لبعض الإخوان. أحدهم كان في الحمام حين خرج فريقه إلى التدريب. قام أبوبكر بتذكير الجميع بأن هذا إهمال وسلوك غير قويم بالنسبة إلى أي مجاهد. ما من مجاهد إلا يبقى مهتماً بسائر إخوانه، إنها مسألة حياة أو موت.