يختتم المؤلف كتابه بتناول التساؤلات الأكثر أهمية فيما يتعلق بموضوع المافيات وحضورها الملموس على امتداد العالم، فهناك أولا التساؤل عما إذا كان المستقبل سيشهد قيام دول مافيوزية من عدمه، وما إذا كان سقف العولمة سيتيح المزيد من التغلغل من جانب قوى الجريمة المنظمة في آليات عمل المؤسسات الاقتصادية الكبرى. |
وفى مواجهة التساؤل عمن يتصدى للمافيات اليوم، يحذر المؤلف من أن هذا التصدي لايزال مقتصرا حتى الآن على جهود فردية لا تفتقر إلى النبل ،لكنها ينقصها الطابع المؤسسي القوي المطلوب بشدة.وهو يخلص أخيرا إلى أن الثقافة الأصيلة هي وحدها التي يمكنها الحيلولة دون تغلغل الجريمة المنظمة في طريقة حياة المجتمعات المختلفة على امتداد العالم. أطلقت عليه تسمية «الإيطالي الأكثر قوة منذ يوليوس قيصر». والمقصود هو انريكو ماتيي الذي تجرأ منذ سنوات الخمسينات على الوقوف ضد احتكار الشركات الانجلو ـ أميركية الكبرى لتزويد أوروبا بالطاقة. كان ماتيي يشغل منصب مدير الوكالة الوطنية الإيطالية للهيدروكربورات
كانت سياسته ترمي إلى تشجيع استقلال إيطاليا على صعيد التزوّد بالطاقة عبر عقد اتفاقيات متوازنة مباشرة مع البلدان المنتجة للبترول في الشرق الأوسط. وبتاريخ 27 أكتوبر 1962 انفجرت طائرته في الجو عندما كان بطريق العودة من باليرمو إلى ميلانو. كانت سياسة ماتيي تهدد مصالح عدة أطراف في مقدمتها الشركات الانجلو ـ أميركية الكبرى المعروفة آنذاك بتسمية «الأخوات السبع»، وأيضا مصالح دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، لاسيما أنه كان يريد توجيه بلاده نحو مغامرة عبر المتوسط، تقوم على أساس تعزيز العلاقات مع بلدان الجنوب مثل مصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب، وأيضا مع بلدان الشرق الأوسط المنتجة للنفط.
هنا يسأل المؤلف: من قتل انريكو ماتيي؟ الولايات المتحدة، فرنسا، الشركات البترولية الكبرى؟ كان لا بد من الانتظار حتى عام 1984 لمعرفة الحقيقة بعد أن اعترف أحد المافيوزيين التائبين، واسمه تومازو بوسيتا أن الشركات البترولية الأميركية الكبرى هي التي طلبت من مافيا كوزا نوسترا في صقلية «تحييد» ماتيي... وهذا ما فعلته. وكانت تلك القضية أيضا سببا في قتل شخص آخر هو الصحفي «مورو دو مورو» الذي قام بتحقيقاته حول القضية وكان على وشك الكشف عن الوقائع.
في عام 2004، أي بعد أكثر من عشر سنوات على انهيار جدار برلين انفجرت فضيحة شركة بارمالات عندما عجزت هذه المجموعة متعددة الجنسيات، التي كانت تستخدم 35000 شخص في العالم، عن تسديد قرض عند حلول أجل دفعة. حققت العدالة في الموضوع واكتشفت وجود «منظومة» تضم مجموعة من كبار الصناعيين في شمال إيطاليا. تتالت عمليات الانتحار وبدت المسألة شبيهة إلى حد كبير بما عرفته مجموعة «انرون» الأميركية. وهكذا تحدّث البعض عن فضيحة «بارمالات» على أنها «انرون على الطريقة الأوروبية». |
ما الأسباب التي أدت إلى تلك الكارثة المالية للشركة الكبيرة؟ لقد كشفت العدالة أن هذه الشركة العملاقة عقدت اتفاقا مع مافيا «كامورا» في نابولي وكذلك مع مجموعة كبيرة أخرى تعمل في ميدان الصناعات الغذائية هي مجموعة «سيريو». «كان ميثاقا مع الشيطان»، يقول المؤلف. وكانت المافيا قد التزمت بموجبه على تأمين احتكار التزود بمنتوجات منطقة نابولي وكازيرتا لصالح مجموعتي سيريو وبارمالات. المزاحمون الآخرون جرى طردهم من المنطقة. |
فهل كان ذلك درسا إيطاليا تقليديا؟ ما يتم تأكيده هو الرد بالنفي، ذلك أن مثل هذه العلاقات الجديدة بين عالم الأعمال وبعض الشركات تزداد وتتكاثر في ميلانو أو طوكيو أو وول ستريت أو غيرها. وبعد أن ينبّه المؤلف على ضرورة عدم التعميم يشير إلى حقيقة وجود مثل هذا التوجه في إطار الاقتصاد المعولم. |
إن انفتاح الأسواق المالية منذ سنوات التسعينات أدّى إلى اضطرابات عميقة على صعيد التجارة العالمية. ذلك أن الرقابة على المبادلات جرى حذفها، أو على الأقل تخفيفها، مما شجّع اللعب على أسعار العملات الصعبة. وهذا خبر جيد بالنسبة لأولئك الذين يقومون بغسيل الأموال. |
ثم إن الأسواق بانفتاحها جلبت زيادة كبيرة في الاستثمارات التي زادت من 5 مليارات دولار عام 1990 إلى 50 مليار دولار عام 2000. وبمقدار ما تزداد مثل هذه العمليات يصبح غسيل الأموال أكثر سهولة، هذا بالإضافة إلى أن الثورة المعلوماتية قد سمحت بنقل مبالغ هائلة خلال ثانية واحدة من طرف العالم إلى الطرف الآخر. |
وهناك أيضا واقع كتمان النظام المالي العالمي المحكوم بوجود السر المصرفي والفراديس الضرائبية والبنى القانونية الغائمة ونظام سويفت، الخ. وهذا كله ملائم للمافيات كي تقوم بغسيل الأموال القذرة، أي ما يشكل إحدى أولوياتها. وفي المحصلة «يعرف تاريخ العالم مع منعطف هذه الألفية الثالثة تحولا جذريا يجري أمام عيوننا ولا نزال بعيدين عن إمكانية السيطرة على جميع جوانبه»، كما يقول المؤلف. |
وفي حالة بلدان أوروبا الشرقية والوسطى التي كانت خاضعة حتى الأمس القريب للاقتصاد المخطط الذي يخضع بشكل شبه كامل لسيطرة الدولة، انتقلت مباشرة بعد «تحريرها» نحو اقتصاد السوق اللبرالي، ولكن مع واقع غياب القواعد الأساسية للبرالية التي تقتضي اعتماد السوق أساسا على منظومة مصرفية وقانونية متماسكة. وكانت نتيجة ذلك الانفتاح هي إعطاء نفحة من الأكسجين لمنظمات الجريمة المختلفة. |
لكن تلك الكارثة لم تقتصر على البلدان ذات الاقتصاد المخطط سابقا وإنما طالت أيضا، بدرجات متفاوتة، الاقتصاد الغربي. وينقل المؤلف عن المدير التنفيذي السابق للبنك الدولي قوله: «خلال سنوات التسعينات أصبح أرباب التجارة الممنوعة أكثر دولية وأكثر ثراء وأكثر نفوذا على الصعيد السياسي من أي يوم آخر . وينبغي على جميع مفاهيمنا الخاصة بتفسير السياسة والاقتصاد العالميين أن تتأقلم مع هذه التبدلات. وهذا أمر ملحّ تماما». |
وكانت مجموعة عمل ضمّت عشر إدارات أميركية قد أعدّت في ديسمبر من عام 2000 تقرير موجها للرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون. وكان ذلك التقرير منذرا بالخطر، لاسيما فيما يخص إمكانية رؤية دول مافيوزية تقوم في أفق عام 2010. |
وكانت موناكو قد شهدت في ذلك السياق انعقاد قمة نظّمتها الأمم المتحدة للبحث في سبل محاربة الجريمة المنظّمة على أساس خطط تتبنّاها المجموعة الدولية كلها. ولكن استجدت في ذلك السياق أيضا تفجيرات 11 سبتمبر 2001 لتتوجه الأنظار والخطط الأميركية خاصة، والدولة عامة نحو محاربة الإرهاب. |
ويشير المؤلف هنا إلى أنه من غير الإنصاف القول أن السلطات الدولية بقيت مكتوفة الأيدي أمام التبدل الحاصل. هكذا أقيمت في عام 1989 «مجموعة العمل الحالي حيال تبييض رؤوس الأموال». وجرى إعداد قائمة سوداء بما سُمي ب«الفراديس الضرائبية» مما أرغم بعض البلدان على إعادة النظر في تشريعاتها وقوانينها النافذة، لكن بلدانا أخرى رفضت القيام بأي تغيير. |
وفي إطار الاتحاد الأوروبي دخل بتاريخ 2 نوفمبر 2007 توجيه صادر عن المفوضية الأوروبية حيّز التنفيذ وهو يخص دفع جميع الأوروبيين إلى تحمل مسؤولياتهم ضد مخاطر «تبييض العملات». تتم الإشارة بهذا الصدد إلى أن عمليات تبييض الأموال كانت تمثل خلال سنوات التسعينات أقل من 2 بالمئة من إجمالي الإنتاج الداخلي العالمي وقد تجاوزت هذه النسبة 10 بالمئة خلال عام 2000. |
هناك إذن سياق ملائم للتبييض خلقه واقع زيادة الجرعة المالية في الاقتصاد. هكذا استطاعت المنظمات المافيوزية أن تلجأ إلى عمليات تلاعب في البورصات لم يستطع السوق السيطرة عليها أحيانا. وقد اكتشفت العدالة الأميركية، مثلا، عام 2001 منظومة في وول ستريت عُرفت بتسمية «النفخ من أجل تضخيم الحجم»، وحيث استطاعت عائلة «جامبينو» المافيوزية في نيويورك التغلغل في البورصة النيويوركية عبر بعض الوسطاء ورجال الأعمال كي تقوم ب«تعويم» أسعار بعض الأسهم حسبما تريد. وقد دلّت تلك التلاعبات على التقارب بين المافيا القديمة وعالم الأعمال المعاصر الأكثر تقدما. |
طريقة «النفخ من أجل تضخيم الحجم» تقوم على عملية «بسيطة». هكذا يتفق مافيوزيون بينهم علاقات أعمال على إنشاء شركة وهمية إلى هذه الدرجة أو تلك. ثم يشتري الطرف «س» أسهما بسعر منخفض من الطرف «ع». الأول هو «بائع المخدرات» والثاني هو «الشاري الذي عليه دفع الثمن للأول». |
ثم يتم رفع أسعار الأسهم بشكل مصطنع (مثل بث إشاعة العثور على منجم للذهب أو الماس، وتتحدث الصحافة عن ذلك). وعندها يبيع الطرف الأول «س» الأسهم ويتقاضى من الشاري، كائنا من يكون، الثمن الذي كان ينبغي على الطرف «ع» دفعه له. لكن الأمور تتم بصورة شرعية وعلى مرأى ومسمع الجميع. |
مثل هذه الطريقة استخدمتها المافيات اليابانية في تجارة اللوحات الفنية بحيث يتم بيعها في المزاد العلني، ويدفع فيها أحد الأطراف المافيوزية المبلغ المستحق عليه لطرف مافيوزي آخر كثمن لسلاح أو مخدرات أو غيرها. ويكتب المؤلف بهذا الصدد: «إن السوق المعاصر للفن يشكل فردوسا ـ الدورادو ـ بالنسبة لعمليات تبييض الأموال. ذلك في ظل استبعاد أي معيار جمالي وحيث يمكن لأعمال جرى تنفيذها بسرعة وخفة أن تحقق أسعارا خيالية أمام تصفيق النقّاد». |
في مثل هذا السياق أيضا حاولت البلدان الكبرى تطوير أسواق داخلية فيما بينها مثلما فعل الاتحاد الأوروبي ومجموعة بلدان جنوب شرق آسيا حيث تكمن السيطرة أكثر على المبادلات مع امتلاك وسائل جديدة من أجل مكافحة الجريمة المنظّمة بصيغها الجديدة. ولكن المافيات تبحث عن سبل اختراق مثل هذه المنظومات، ولا شيء يسمح بالقول أنها لن تنجح. |
البيان الامراتيه.