روى لـ «الحياة» قصة مطاردة طويلة غيّرت وجه العراق وهزّت توازنات المنطقة(4).. الدكتورأحمد الجلبي:أقنعنا كريستوفر بتأييد فكرة لجنة للنظر في جرائم ضد الإنسانية وكان المنعطف رسالة من آل غور تتحدث عن مواجهة صدّام حسين وتغيير النظام
حاوره غسان شربل الحياة - 24/03/09//
باجتياحه الكويت في آب (اغسطس) 1990 قدم صدّام حسين للمعارضة العراقية هدية لم تحلم بمثلها. دخل نظامه في مواجهة مع الشرعية الدولية فكانت حرب تحرير الكويت وما تلاها من عقوبات.
قبل ذلك التاريخ كان الدكتور أحمد الجلبي بدأ نسج خيوط في أميركا مع الدوائر المؤثرة في صناعة القرار وسعى إلى عرقلة تسهيلات مالية كان النظام العراقي يحصل عليها لتمويل عمليات الاستيراد. بعد الغزو راح الجلبي يعمل على جبهتين، الأولى انضاج الموقف الأميركي من المعارضة العراقية، والثانية بلورة أرضية مشتركة بين اطراف المعارضة تكون مقبولة أميركياً ودولياً واقليمياً. وكانت المحطة الأبرز موافقة جيمس بيكر وزير الخارجية في عهد جورج بوش الأب على استقبال وفد عراقي معارض. لكن النقلة النوعية حصلت في عهد الرئيس بيل كلينتون، وهنا نص الحلقة الرابعة:
> دكتور جلبي، بعد انتخاب بيل كلينتون رئيسا للولايات المتحدة، كيف تابعتم الملف العراقي في عهده، وكيف تشكلت القناعة لدى الأميركيين بإسقاط نظام صدام حسين؟
- حصلت الانتخابات الأميركية بعد أقل من أسبوعين من انعقاد مؤتمر صلاح الدين. خسر بوش الأب الانتخابات لولاية ثانية اواخر عام 1992، وفاز كلينتون. وركز برنامجه في الفترة الأولى من رئاسته على الشؤون الداخلية، وكان هناك برنامج للضمان الصحي يركز عليه مع زوجته هيلاري. وكان كلينتون يعتبر أن مشاكل العراق موروثة من عهد الرئيس بوش الأب وكان يريد أن يتخلص منها. في تلك الفترة، أدلى كلينتون بتصريح، اعتبرته زلة لسان واستفدنا منه، قال: «إذا اهتدى الانسان فنحن نصفح عنه». كلينتون كان يتحدث هنا عن صدام، وقال: «الإنسان يمكن أن يهتدي وهو على فراش الموت». وفسر كلامه بأنه كان يريد أن يتفاهم مع صدام. بالنسبة لي، كان المدخل الى كلينتون هو مارتن انديك (مستشاره لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي) وهو يهودي صهيوني واسترالي جاء الى أميركا عام 1984، وأسس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وفي أواسط الثمانينات بينما كان انديك يؤسس المعهد، قام بجولات في الشرق الأوسط للقاء مجموعات من المتبرعين لمعهده. وكان مهتما بلقاء مسؤولين وأشخاص عندهم أفكار وآراء حول منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً من العرب. في تلك الفترة كنت في عمان، رئيسا لمجلس إدارة بنك البتراء، وكنت مدعواً لحضور حفلة زفاف في واشنطن، جاء انديك، فعرفوني به. أنا احترمته واحترمت الأشخاص الذين كانوا برفقته، وعندما زار المنطقة ساعدناه وسهلنا أمره. هكذا بدأت العلاقة معه. التقينا في عمان وتوالت اللقاءات. هو كان مستشار كلينتون في الانتخابات، ولما صار كلينتون رئيساً عين انديك مستشاره لشؤون الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي. وعندما جاء بوش عين زلماي خليل زاد مكانه. في مجلس الأمن القومي هناك مستشارون للرئيس لمناطق مختلفة، لكن الأهم كان المسؤول عن الشرق الاوسط، وتضمنت أجندته عملية السلام.
كلينتون لم يكن مهتماً بالسياسة. أنا اتصلت به مرة وسألته عن العرض بالعفو عمن يهتدي. قلت: «هل تريدون أن تتصالحوا مع صدام»؟، أجاب: «لا». قلت له: «حسنا، يجب اذن ان تفعل لنا شيئاً بسرعة». فقال: «ماذا تريدون؟». قلت: «نحن قمنا بزيارة لجيمس بيكر، ونريد أن يلتقي وفد من المؤتمر الوطني العراقي مع مسؤولين اميركيين، على الأقل مع الوزير وارن كريستوفر». قال: «حسنا». فقلت: «اريد ان تتم في اول مئة يوم من تسلمك رئاسة الجمهورية». فاتفقنا وقمنا بزيارة لأميركا في الشهر الرابع من العام 1993. أنا لم أكن ضمن الوفد، لكنني رتبت للزيارة. استفدنا من الزيارة لجمع الناس. جمعنا ستة أشخاص: السيد محمد بحر العلوم ومسعود بارزاني وحسن النقيب وجلال طالباني وصلاح الشيخلي وشخص آخر لا أذكر اسمه. وضعنا برنامج الزيارة. وسافرت الى واشنطن قبل سفر اعضاء الوفد.
كنت قلت لأعضاء المؤتمر: «أريد منكم موضوع محاكمة صدام. بين أيديكم تقرير للمدعي العام في الجيش الأميركي عن جرائم حرب قد يكون صدام ارتكبها في الكويت، انشروه». غبت عنهم يومين، قالوا بعدهما إنه نشر. فقلت أريد شيئا آخر، أن تقول أميركا أنها مهتمة بمحاكمة صدام. فقالوا حسنا. جاء الوفد الى واشنطن، وقابلوا كريستوفر. وخلال المقابلة مع كريستوفر، قال لهم إن الولايات المتحدة تؤيد تشكيل لجنة في الأمم المتحدة للنظر في جرائم ضد الإنسانية قد يكون صدام ارتكبها، وإنها تنظر في الأدلة. عندها عرفت أن ما طلبته تم.
كان هذا في الشهر الرابع عام 1993، وكان تطورا خطيرا توقعت أن بإمكاننا أن نبني عليه مدخلا مع إدارة كلينتون، وأن نجعلهم يلتزمون بهذه القضية. وفعلا هذا الشيء ساعدنا.
بعد ذلك، قابل الوفد مستشار الأمن القومي للرئيس كلينتون انتوني ليك ثم زار نائب الرئيس آل غور. كنا وضعنا برنامجا للوفد ليطرح مع آل غور التدمير البيئي الذي قام به صدام في أهوار العراق في منطقة الجنوب، وذلك على اعتبار أن آل غور مهتم بالبيئة. وتم هذا الأمر.
> أنت لم تكن مشاركا في هذه اللقاءات؟
- أنا لم اكن أشارك في هذا اللقاءات، لكنني كنت موجوداً في واشنطن.
> وتحمس آل غور ضد صدام؟
- طبعا.ً هو لم يتحمس فقط، بل قام بشيء كبير جداً، وقّع رسالة وأرسلها إلينا، بعدما كنا اقترحنا عليه أمراً. في ذلك الوقت كان صدام ألغى ورقة العملة من فئة الـ25 ديناراً، وتسبب هذا الأمر بضجة، إذا تسبب بخسارة الكثيرين لمدخراتهم. فاقترحنا عليه أن نؤسس مجلس نقد عراقي يصدر عملة عراقية تغطيها أرصدة الحكومة العراقية التي كانت محجوزة في العالم. وقلنا له إن هذه العملة ستكون العملة المتداولة في العراق، وصدام سيحتار. طبعاً كانت خطة عظيمة، لكنهم لم يأخذوا بها. وبدلاً من ذلك كتب آل غور رسالة وجهها لي بتاريخ 4 آب 1993، يقول فيها إن الولايات المتحدة اهتمت بالمستوى العالي من البحث الذي حصل مع المؤتمر الوطني العراقي، وإن الرئيس كلفه بأن ينقل إلينا أن الولايات المتحدة ستقوم بما في وسعها لمساعدتنا على مواجهة صدام وتغيير النظام.
> هذه كانت المرة الأولى التي يذكر فيها موضوع تغيير النظام؟
- أجل، والنص موجود عندي. لا اعتقد انهم قدروا حجم الالتزامات التي ترتبها هذه الرسالة عليهم. فاكتسبنا أمرين من هذه الزيارة، الأول موضوع المحاكمة، والثاني حصلنا على انطباع جيد من آل غور عن اهتمامنا بالبيئة، وبنتيجة الامرين كانت الرسالة التي ساعدتنا في اصدار قانون تحرير العراق.
في هذه الفترة طلبنا ايضاً من الإدارة الأميركية أن تسهل لنا الاتصال بالدول العربية، فحصل اجتماع مع سفير المملكة العربية السعودية لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، وكان الاجتماع معه جيداً جداً. ثم طلبنا منهم أن يساعدونا على زيارة المملكة العربية السعودية، كي نكسر الطوق من حولنا الذي كان يشبه المقاطعة، فوافقوا. عاد الوفد الى لندن، ومن هناك تم ترتيب الزيارة الى المملكة العربية السعودية، وأرسل لنا المغفور له الملك فهد طائرة خاصة نقلت 14 من أعضاء المعارضة في قيادة المؤتمر الوطني مباشرة الى السعودية.
> في أي عام حصل ذلك؟
- في الشهر السادس عام 1993. قبل موسم الحج، وأدينا فريضة الحج ضيوفا على الملك فهد.
ذهبت الى واشنطن وشرحت الوضع، قالوا: هذه بداية عظيمة ونحن يمكننا أن نبني على ذلك.
كنا في بداية الشهر السابع من عام 1993، وقال الاميركيون: المرحلة التالية هي الكويت. رجعنا الى كردستان وبقينا هناك وبدأت في بناء مؤسسات المؤتمر الوطني العراقي، كنا بدأنا بإصدار جريدة في الشهر الرابع من ذلك العام ونحن في أميركا وأسسنا إذاعة وتلفزيون ومركزاً للإعلام الخارجي ومركز اتصالات مع الجيش العراقي داخل مناطق صدام وخطوطاً لشرح الوضع للداخل. كما بدأنا بتأليف كتاب عن محاكمة صدام باللغة الإنكليزية. سميناه «العدالة والمصالحة». وضمناه قرارات عدة، أولها مشروع قرار في مجلس الأمن حول تأليف محكمة لمحاكمة صدام ونظامه. أعدته مجموعة من المحامين بينهم الأستاذ كنعان مكية، ويتضمن أيضا 12 لائحة اتهام بحق كل المتهمين الرئيسيين: صدام حسين وأولاده وعلي حسن المجيد وعبد حمود وعزيز صالح وطارق عزيز وطه ياسين رمضان ومحمد حمزة الزبيدي وحسين كامل و35 شخصاً آخرين. وهم قيد الاعتقال وتجري محاكمة بعضهم.
بعدها ذهبنا الى كردستان وبدأنا العمل من هناك، وعقدنا اجتماعات للمجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني في كردستان.
> نحن الآن نتحدث عن المؤتمر الوطني العراقي كمظلة للمعارضة؟
- نعم، في كردستان.
> من كان يضم؟
- الإسلاميين والأكراد وكل الأطراف.
> والمرحلة التالية؟
- كان علينا أن نقيم نشاطاً مهماً. وحصلت رحلة الكويت.
> ماذا حصل في تلك الرحلة؟
- كنت آنذاك في كردستان وذهبت الى طهران ومنها جاء معي الشيخ همام حمودي ممثل المجلس الأعلى لينضم الى وفد المؤتمر الوطني لزيارة الكويت. وجاء من لندن بقية اعضاء الوفد، وكانوا ستة. لطيف رشيد (وزير الموارد المائية الحالي) عن الاتحاد الوطني الكردستاني وهوشيار زيباري من الحزب الديموقراطي الكردستاني وصلاح الشيخلي من حركة الوفاق الوطني والشيخ همام وأنا. كان هذا في شهر 11. في الكويت استقبلونا استقبالاً كبيراً، وقابلنا وزير الخارجية آنذاك الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد.
> وكيف كان اللقاء؟
- كان اللقاء جيداً، وقلنا إن هذه خطوة مهمة علينا أن نقوم بها واننا نحترمكم. ثم قابلنا رئيس الوزراء المرحوم الشيخ سعد العبدالله وكذلك الأمير المرحوم الشيخ جابر الأحمد، ووعدونا بالمساعدة.
> أي نوع من المساعدة؟
- قالوا إنهم سيعطوننا مبلغاً من المال للمؤتمر للإنفاق على الأوضاع، ويساعدوننا لكنهم لم يساعدونا.
> إذن لم تساعدكم السعودية ولا الكويت؟
- لم يساعدونا. ساعدوا بعض أطراف المعارضة. لكنهم لم يساعدوا المؤتمر الوطني الذي كان مجموعة سياسية تمثل البديل لنظام صدام. و90 في المئة من اركان النظام الحالي هم ممن كانوا أعضاء في المؤتمر الوطني العراقي.
كانوا وعدونا بمبلغ من المال لم يصلنا. أنا أنهيت الاجتماع وذهبت الى فرنسا. كان عندي اجتماعات هناك. وفي ذلك الحين، كانت وكالة الاستخبارات الأميركية منشغلة بقضية اعتبرتها خطيرة: أحضرت سفيري العراق في تونس وكندا وقالت انهما سيلجآن إليها واعطتهما ضمانات بتوفير الاقامة لهما في بريطانيا بشرط أن يعلنا التحاقهما بالمعارضة.
> حدث هذا الشيء؟
- نعم. حامد الجبوري (الذي كان وزير دولة للشؤون الخارجية ومدير مكتب البكر وصدام) سفير العراق في تونس، أخذوه الى إيطاليا في زورق مع أهله ثم نقلوا أغراضه الى بريطانيا. والدكتور هشام الشاوي سفير العراق في كندا، أحضروهما الى بريطانيا، وطلبوا منا أن نساعد في ترتيب مؤتمر صحافي لهما. اعتبرت الوكالة هذا الأمر إنجازا على طريقتها. أعجبهم الكلام عن أن سفراء عراقيين ينشقون عن صدام. لكن الشاوي ما لبث أن تركهم بعدما أخلوا باتفاقهم معه ورحل الى السعودية حيث لا يزال. والجبوري بقي في بريطانيا.
الأميركيون يعتقدون دائما انهم إذا فعلوا هذا الأمر، فسيصلون الى الحلقة المحيطة بصدام وسيؤثرون عليه. هذا كان هاجسهم. بعد ذلك رجعت الى كردستان. وبينما كنت في الطريق بدأ القتال بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحركة الإسلامية في مناطق مختلفة من كردستان العراق، وعندما عدت كان القتال مستعرا. أرسل بارزاني أشخاصاً ليستقبلوني، وكان خائفاً أن يحصل لي شيء في الطريق. كان الوضع متوتراً جداً. رجعنا من إيران الى كردستان. الحركة الإسلامية كانت ضمن المؤتمر الوطني وجلال كان في زيارة خارج العراق عندما بدأ القتال، وبسرعة استطاع الاتحاد الوطني أن ينهي الوجود العسكري للحركة الإسلامية. كان رئيس الوزراء في كردستان الأستاذ كوسرت رسول علي (نائب رئيس الاقليم) وهو مقاتل شجاع، قاموا بحملة إعلامية شرسة ضد الإسلاميين وأعطوا انطباعا بأن أميركا تريد القضاء على الإسلاميين. فكرت حينها بأننا في كردستان والإسلاميون جزء من المؤتمر العراقي، فكيف نسكت عن هذا الموضوع. فانتصرت لهم.
> هل أيدت الإسلاميين؟
- لم أؤيدهم، بل طلبت منهم أن لا يقوموا بأعمال مخلة باحترام قيادة الحركة الإسلامية. هم كانوا سيذهبون الى إيران، فأقنعت كوسرت بأن يطلق سراح مرشد الحركة الإسلامية الشيخ عثمان عبدالعزيز وأحد أولاده ومجموعة أخرى منهم، وأن يحضرهم الى كردستان، إلى منطقة مسعود حيث مقرنا في صلاح الدين. اقتنع كوسرت، وأرسلهم. وسألت الأستاذ مسعود، هل تستقبلهم؟ قال: طبعا، لكنني اخجل من مقابلة الشيخ. أنت استقبلهم، وخذ معك أخي. استقبلتهم وبقوا أياما في مقر ضيافة الحزب الديموقراطي الكردستاني ثم استأجرنا لهم بيوتا في صلاح الدين وفتحنا لهم مجال الاتصال بالخارج للإعلان عن بقائهم في كردستان. لم يكن عندنا موبايل بل تليفونات ساتيلايت. ثم حتى انفي لهم أن الأميركيين يريدون ضرب الحركة الإسلامية، رتبت لهم لقاء مع مندوبة وزارة الخارجية الأميركية في قاعدة انجرليك اسمها بربارة شيل التي قتلت بعد اسابيع في تحطم طائرة هيليكوبتر ضربها الأميركيون. قلت لها: أبلغيهم أن اميركا لم تطلب من احد ان يضربهم وان لا شيء ضدهم. انتعشوا. في شهر آذار 1994 زارنا وفد مؤلف من بروس رايدل نائب انديك والين لايبسن (ضابط استخبارات) وديفيد ليت (الذي صار لاحقا مدير مكتب شمال الخليج في وزارة الخارجية الاميركية ثم سفيراً في الامارات) زارنا الوفد واطلع على الإمكانات الموجودة عندنا وأعرب عن اهتمامه ثم تم ترتيب اجتماع للوفد الأميركي مع مسعود بارزاني في حضوري. قالوا له: نحن فرحون بالتقدم الكبير الذي أحرزه المؤتمر الوطني. مسعود بارزاني كان عضواً في مجلس الرئاسة في المؤتمر، وقالوا: نحن نريد ان نقوم بشيء لنرفع قيمة المؤتمر الوطني. قال بارزاني: اذا اردتم ان تساعدوا المؤتمر الوطني في شكل جدي في العراق، ساعدوا المؤتمر الوطني للسيطرة على الموصل، وهذا ممكن. عندها ساد الصمت وكأن على رؤوسهم الطير وانتهى الاجتماع.