روى لـ «الحياة» قصة مطاردة طويلة غيّرت وجه العراق وهزت توازنات المنطقة (الأخيرة)...الدكتور أحمد الجلبي: لست رجل أعمال وأكره السلطة ولم أحلم برئاسة الوزراء... نشرت أول تقرير عن صفقات النفط فتضايق بعض أعضاء مجلس الحكم
الحياة
قال أحمد الجلبي إنه لا يشعر بالخوف عندما يتجول بين الناس في شوارع بغداد، وإنه نادم على ترك عائلته أكثر من اللازم للاهتمام بالمسائل العامة.
ونفى ان يكون واحداً من رجال الأعمال قائلاً إن المال لا يعنيه إلا بالقدر الذي يغنيه عن الناس والحاجة. وأبدى إعجابه بالجنرال ديغول لأنه دافع عن فرنسا من دون ان يكون لديه شيء. وهنا نص الحلقة الأخيرة:
> دكتور الجلبي. متى ولدت؟
- في 30/10/1944 في حي الأعظمية في بغداد. والدي هو عبدالهادي عبدالحسين الجلبي، ووالدتي بيبي حسن البصام.
> وكم أخ لك؟
- خمسة هم رشدي وحسن وجواد وطلال وحازم. وثلاث شقيقات هن ثمينة ورئيفة ونجلا. ورشدي هو أكبرنا وولد عام 1917.
> أين درست؟
- درست في مدرسة عادل الابتدائية في بغداد. ثم في كلية بغداد للآباء اليسوعيين، وبعدها لثلاث سنوات في كلية «سيفورد كولدج» في بريطانيا، ومنها إلى «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» في العام 1961. وحصلت على درجة بكالوريوس العلوم في الرياضيات. والتحقت بجامعة شيكاغو في العام 1965، وحصلت منها على دكتوراه في الرياضيات بعد ذلك بأربع سنوات.
> هل لك انجاز علمي في مجال الرياضيات؟
- نعم. أنجزت نظرية في الجبر على شيء من الأهمية.
> كانت عائلة الجلبي تتعاطى في السياسة، وهي من رجال المال؟
- نحن من قبيلة طي العربية التي تسكن شمال سورية، ودخلت إلى العراق في آخر حملة عثمانية لاحتلال العراق من الصفويين بقيادة السلطان مراد الرابع في العام 1637. سكنوا في منطقة الكاظمية وفي مدينة بلد شمال بغداد. وعينهم العثمانيون حكاماً للعاصمة، وكانوا على علاقات واسعة بالعشائر العربية التي وفدت إلى العراق من الجزيرة العربية وسورية، مثل تميم وزوبع. وشاركوا في العمل السياسي وكانوا يملكون أراض، ووالدي دخل في التجارة بشكل واسع. وكان جدي عضواً في الجمعية التأسيسية العراقية التي انتخبت العام 1922، ثم عضواً في مجلس الأعيان. واصبح وزيراً للمرة الأولى في حكومة عبدالمحسن السعدون في العام نفسه، حين تولى حالحرية المعارف. ودخل الحكومة ثماني مرات حتى وفاته عام 1939.
في العام 1930، فاز والدي بالانتخابات في الكاظمية، واصبح وزيراً في العام 1944 في وزارة أرشد العمري وبعدها في إحدى وزارات نوري السعيد. وفي العام 1948 عضواً في مجلس الأعيان، ثم نائباً لرئيس المجلس، وشغل رئاسته لفترة. وبعد ذلك أصبح شقيقي الأكبر رشدي نائباً عن الكاظمية في 1948، ثم وزيراً في عام 1954 في إحدى وزارات نوري السعيد وبقي حتى 14 تموز (يوليو) 1958.
> هل كانت تربط عائلتكم علاقة خاصة مع نوري السعيد؟
- نعم. كانت هناك صداقة. وحين حاول السعيد الفرار، أخذته أختي ثمينة وزوجها وشقيقه من منطقة كرادة مريم التي أصبحت الآن المنطقة الخضراء، إلى بيت عم أمي في الكاظمية. وبعدها ذهب بطلب منا إلى بيت الحاج محمود الاسترباضي في الكاظمية. وكانت زوجة الحاج محمود المرحومة السيدة بيبي، وهي من عائلة معروفة إيرانية الأصل، صديقة والدتي منذ الصغر. وجاءت يوم 15 تموز (يوليو) 1958، وكان عندهم نوري السعيد، لتطلب من والدتي أن تساعدها في إخراجه من دائرة الخطر في بغداد. كنت صغيراً واتفقتا أمامي على خطة. وبعد 5 ساعات، سمعنا أنها قتلت مع نوري السعيد في الكرادة.
> هل انت حاقد على الثورة؟
- لا. لست حاقداً على الثورة. لكنني كنت في العهد الملكي معجباً بالوضع في العراق. كنت مهتماً بالأوضاع السياسية منذ صغري، وحضرت تشكيل وزارات ومناقشات سياسية في منزلنا. كان هناك إعمار ومشاريع. وبعد 14 تموز، تضررت عائلتنا جداً. كان والدي خارج البلاد، ودخل شقيقي رشدي السجن. ثم خرج بعد فترة. وسافرت إلى بريطانيا بعد ذلك بثلاثة شهور، ثم انتقل أهلي إلى بيروت عام 1959. وكنت أزورهم دائماً في الإجازة الصيفية، وأتابع الوضع من الخارج.
> ماذا فعلت بعد إنهاء دراستك في شيكاغو؟
- ذهبت إلى طهران بعد أسبوع من إنهاء الدكتوراه، للعمل على إسقاط نظام البعث مع السيد مهدي الحكيم وسعد صالح جبر وعبدالغني الراوي وعبدالرزاق النايف. كان ذلك في العام 1969. كان هناك تعاون مع الحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى بارزاني.
> كانت السافاك (الاستخبارات الايرانية) تدعم هذه الحركة؟
- نعم. وفشلت بسبب غباء السافاك. تجمعت عندي معلومات أن المحاولة ستفشل، وحذرتهم من ذلك. كان معي شقيقي حسن، وبعد عودتنا من طهران إلى بيروت بشهر كشفت المحاولة. وأُعدم عشرات الأشخاص. هذه التجربة علمتني أن نظام البعث لا يمكن الخلاص منه بانقلاب. صدام كان خير المتآمرين. كان يعرف ما معنى التآمر، وعمل على إهانة بعض ضباط الجيش العراقي ورشوة بعضهم للسيطرة عليهم. قام بأعمال فظيعة تجاه الجيش.
بقيت هذه المحاولة في ذهني مع محاولات الانقلابات المخترقة في السبعينات، دليلاً على أن البعث لن يتغير عن طريق الانقلاب. في إحدى هذه المحاولات، قُتل ضابط اسمه صالح مهدي السامرائي على يد الاستخبارات العراقية في بيروت العام 1974. وهو كان يعمل على تحويل الثورة الكردية آنذاك إلى حركة عراقية. وكان يمثل الحزب الديموقراطي الكردستاني، وأرسله الملا مصطفى بارزاني إلى بيروت لهذا الغرض.
كنت أعمل وقتها على هذه الخطة مع السامرائي ومندوب الحزب عزيز رضا، وهو في أوروبا الآن. دعاني السامرائي إلى حضور اجتماع مع ضابط عراقي يدعى عدنان شريف قُتل في بداية الحرب مع إيران العام 1980، وهو كان نسيب حماد شهاب وزير الدفاع. وبعد الاجتماع، عُثر على جثة صالح السامرائي في صندوق سيارة في منطقة عاليه.
رغم ذلك استمرت محاولات الانقلاب. في العام 1982 حدثت محاولة اخرى. كان مرشحاً لقيادتها مدير في الاستخبارات العسكرية اسمه شفيق الدرّاجي، وتولى سكرتارية مجلس قيادة الثورة طوال عهد البكر. وبعدها، عُين سفيراً في السعودية. وحدث هجوم المحمرة على الجيش العراقي في أيار (مايو) 1982، فاستدعي الدراجي إلى بغداد، وتُوفي.
> إذن. أنت ذهبت الى ايران في العام 1969؟
- نعم. ومكثت هناك من أيلول (سبتمبر) حتى كانون الأول (ديسمبر)، وغادرت خلال هذه الفترة إلى لندن في تشرين الأول لإقناع عبدالرزاق النايف. بعد ذلك، ذهبت إلى بيروت وعينت أستاذاً في الجامعة الأميركية، حيث مكثت ست سنوات حتى غادرت في العام 1976 إلى عمان لتأسيس «بنك البتراء»، وأدخلت بطاقات الائتمان إلى المنطقة وأول نظام كومبيوتر في العمل المصرفي في الشرق الأوسط.
> ما هي التهمة الموجهة اليك في الاردن؟ وهل طلبوا منك وضع مبلغ في البنك المركزي؟
- لم يطلب مني شيئ كهذا. وكل الذين وجهت إليهم تهمة مشابهة لتهمتي في الأردن حصلوا على البراءة. لم يدن أحد سوى أفراد عائلتي، على رغم أن لا علاقة لهم بعمل البنك. كان شقيقي رشدي عضو مجلس إدارة يأتي إلى عمّان ست أو سبع مرات سنوياً، ويبقى ثلاثة أو أربعة أيام، ثم يسافر. كيف أدانوه فيما حصل باقي أعضاء مجلس الإدارة على البراءة وصار أحدهم وزيراً وآخر رئيس حكومة؟
> وما رأيك انت في هذه القصة؟
- هذه باختصار قضية سياسية. صدام كان يرتكز الى ثلاثة أمور: الإرهاب والدعم الخارجي والمال. أنا عملت على قضية مهمة جداً في أواخر الحرب العراقية هي منع الائتمان عن صدام. كان ممثلو البنوك العالمية الكبرى يمرون عليّ في الأردن قبل زيارة العراق ليسمعوا رأيي. فكنت أشرح لهم وضع صدام لإغلاق أبواب الائتمان في وجهه.
من جهة أخرى، عملت على قضية البنك الإيطالي «بي ان ال» الذي وجد صدام مخرجاً لنفسه عن طريق أحد فروعه الصغيرة في ولاية جورجيا الأميركية، لينجز من خلاله معاملات لاستيراد القمح من الولايات المتحدة. وأغلقت هذا عليه.
> هناك كتابات كثيرة تقول إنك تمزج بين العائلة والمؤسسة في مشاريعك المصرفية، وانك تحول أموالك الى «جنات ضريبية». هل قرأت كتاب «الرجل الذي دفع أميركا إلى الحرب»؟
- نعم. لكن هذا الكلام تافه. لم يجدوا أي توقيع لي على ورقة مخالفة للقانون. اقرأ قرار المحكمة. يقول القاضي: لم أجد رجلاً مخلصاً لهذه المؤسسة مثل هذا الرجل، ومع ذلك صدر حكم ضدي.
> هل جرت محاولات لحل المشكلة عندما كنت مسؤولاً في الحكم في العراق؟
- عندما وصلنا إلى بغداد في 14 نيسان (أبريل) 2003، جاءتني ابنتي لتقول إن مراسل تلفزيون أبوظبي وهو مصري، يقول: الشيخ محمد بن زايد يريد أن يكلمك. لم أكن أعرفه، قال لي على الهاتف: أولاً، أهنئك على النجاح الباهر الذي حققتموه. ثانياً، لدينا بعثة للحاجات الإنسانية في الأردن والعراق ستكون بتصرفك. وثالثاً، القضية مع الاردن منتهية وأي شيء تتفقون عليه أنا مسؤول عنه. شكرته وقلت انه ليست لدي مشكلة. لكن لم يحدث أي اتصال آخر.
> هل تشعر بطمأنينة في بغداد، أم بالقلق؟
- لا. لست قلقاً. أنا أمشي بين الناس كثيراً في بغداد.
> هل ما زال لك مستقبل؟
- لي ماض. والمستقبل مرآة للماضي.
> وكيف تصف ماضيك؟
- مهم. جيد.
> في الكتب التي تنتقدك، وهي كثيرة، كلام عن أنك كنت تتمنى أن تصبح رئيساً للعراق. هل راودك هذا الحلم؟
- أبداً.
> ولا حتى رئاسة الحكومة الانتقالية؟
- أبداً.
> وماذا كان ينقصك؟
- لا شيء. أنا أكره السلطة. لا أحبها.
> وماذا تحب؟ البيزنس؟
- لا. ولا البيزنس أحبه. أحب العلم والمعرفة والاطلاع على الدنيا ومساعدة الناس. في السلطة، ستظلم طرفاً مهما كنت عادلاً. لم يكن حلمي أبداً السلطة. لو كان هذا حلمي، لكان سهلاً أن أجاري بريمر والأميركيين وأقيم علاقات. كان عندي من الإمكانات في تلك الفترة في العراق ما يمكنني من أن أكون في قلب الأميركيين. إذا قرأت أي كتاب، ستجد أنني كنت أشاكس بريمر وأتدخل في تفاصيل عمله وأنتقده. لو كنت أريد أن أصبح رئيساً، كيف كنت افعل هذا والقرار بيد الأميركيين؟
> لكنك توليت رئاسة مجلس الحكم مرة؟
- نعم. كل شخص تولاها شهراً.
> ماذا تقرأ؟
- أقرأ كثيراً في الرياضيات والتاريخ والفلسفة والسير والأدب والقصص.
> بمن أعجبت في شبابك؟ من أثر فيك؟
- النبي محمد صلى الله عليه وسلم والإمام علي رضي الله عنه لأنه فضل الحق على السلطة، والإمام الحسين لأنه انتصر بموته. والاسكندر المقدوني لأنه وحد الحضارات في العالم.
في التاريخ الحديث، أثر عليّ الفيلسوف هيغل لأنه أسس حركة في التفكير، واكتشفت أن هذا الموضوع موجود في الفلسفة الإسلامية عند صدر الدين الشيرازي الذي أثر فيّ تأثيراً كبيراً جداً، كما فعل الشيخ محيي الدين بن عربي بكتبه وأفكاره. وعالم الرياضيات الألماني بيرنهارد ريمان، وعالم الرياضيات الفرنسي ايفريست غالوا الذي توفي وعمره 21 عاماً. وكثيرون غيرهم.
> ومن من السياسيين؟
- الجنرال ديغول لأنه وقف يدافع عن فرنسا عندما لم يكن لديه شيء. وقف أمام القوى التي لها الإمكانات المادية الهائلة، وهي بريطانيا وأميركا وأصر على مواقف وطنية.
> وماذا عن السياسيين العرب؟
- في العراق أحترم الملك فيصل الأول ونوري السعيد.
> هل تخاف عندما تتذكر أن التاريخ العراقي كله سحل واغتيالات؟
- التاريخ العراقي فيه كثير من العنف. لكنني أعتقد أن الشعب العراقي حي يستطيع أن ينهض بالعراق.
> هل يعني لك الشعر شيئاًَ؟
- قليلاً.
> ألا تقرأ روايات؟
- أقرأ روايات وشعراً بالعربية والانكليزية.
> هل أنت رجل ثري أم ثري جداً؟
- أنا رجل مرتاح.
> تعرض العراق لعملية نهب غير مسبوقة. ما هي حدود استفادتك من هذا الوضع؟
- أنا من كشف النهب. أنا مسؤول عن كشف هذا النهب بالتفصيل، لكن مع الأسف لم تكن هناك استجابة. ولم أحصل على أي منفعة من أي موضوع أو مشروع يتعلق بالحكومة في العراق.
> هل تتهم الأميركيين بنهب العراق؟
- هم خلقوا ثقافة النهب المبرمج في العراق.
> ونهبه عراقيون؟
- أكثرهم عراقيون، وبعض الأميركيين. لكن كثيراً من النهب الحقيقي قام به عراقيون.
> وأنت لا علاقة لك بهذا؟
- أبداً. أنا توليت لمدة سنة من أيار (مايو) 2005 رئاسة لجنة العقود الحكومية. كل عقد في العراق بأكثر من ثلاثة ملايين دولار كان يمر على هذه اللجنة التي اجتمعت خلال هذه السنة 75 مرة، أي بمعدل ثلاث مرات كل أسبوعين. هذه اللجنة أتحدى أن يقول أحد إنها تورطت بأي شكل في سوء استخدام الموارد. قضينا على الفساد الكبير في تلك المرحلة. وفي الوقت نفسه، كشفت النهب الذي حدث في وزارتي الدفاع والكهرباء، واهتمت به الصحف الأجنبية أكثر من الصحف العربية.
> ما هي برامجك للمرحلة المقبلة؟
- أنا باق في منزلي في العراق. أنا مهتم بالفن والثقافة والآثار في العراق. طرحت موضوع توحيد المناهج العراقية.
> على ماذا تندم؟
- انا نادم على ترك عائلتي أكثر من اللازم. واهتميت أكثر بالمسائل العامة. أنا نادم على هذا. كان عليّ أن أهتم بهذا الموضوع أكثر.
> ماذا حدث خلال الهجوم على منزلك؟
- في 20 أيار (مايو) 2004، كنت نائماً في منزلي. جاءني أحد العمال وقال إن الشرطة العراقية والجيش الأميركي على الباب، فطلبت منه إدخالهم. وفوجئت بثلاثة ضباط شرطة يشهرون أسلحتهم وهم في حالة متوترة ويرتدون قمصاناً واقية. ثم التقيت قائدهم وكان ضابطاً برتبة عقيد كان يرتجف. سألته: ماذا تريد؟ فأجاب: معنا أمر بإلقاء القبض على ثمانية أشخاص، وأعطاني ورقة بالانكليزية. قرأتها فوجدت أسماء غير كاملة، فقلت له إن لا أحد من هؤلاء موجود هنا. كان قسم منهم من أعضاء المؤتمر الوطني، وآخرون من أصدقائي. رد قائلاً: سأسحب قواتي وأرحل. وعند الباب، اشتبك الحرس مع الشرطة. وكادت تحدث كارثة لأن الأميركيين أعدوا سرية كاملة كانت ستحرقنا. هدأ الحرس، وطلبت منهم الهدوء والانسحاب. وخرج الضابط، ثم عاد ومعه 10 عناصر. قيل لي إنه حين خرج، جاءه مترجم مع أميركيين بملابس مدنية، أهانوه، وقالوا له: كيف تخرج من دون أن تعتقل أحداً؟