كي جي بي ومعركة العالم الثالث (الحلقة الأولى)- كريستوفر أندرو وفاسيلي متروخين
ظهور كاسترو يقلب حسابات السوفييت في أميركا اللاتينية هذا كتاب استثنائي بكل المعايير، فهو لا يعدو أن يكون المجلد الثاني من وثائق متروخين الشهيرة التي كشفت النقاب بصورة حاسمة، وربما نهائية عن العديد من أسرار الحرب الباردة، والتركيز هنا ينصب هذه المرة على أسرار الصراع بين العملاقين على امتداد ساحة العالم الثالث.
وهنا يجد القارئ نفسه للمرة الأولى مع آلية الحركة التي اتبعها جهاز «كي جي بي» وهو يطرق أبواب أميركا اللاتينية، بداية من كونها ساحة شبه مجهولة لديه إلى أرض يتقن الحركة على امتدادها على نحو أثار دهشة الكثير من الخبراء. نجحت الاستخبارات البريطانية في استقطاب محلل استخباراتي سوفييتي يدعى فاسيلي متروخين في عام 1992، بعد ان انسلخ من الاستخبارات السوفييتية «كي.جي،بي» ولكن قبل ذلك كان متروخين قد أمضى أكثر من ثلاثين عاماً في تصنيف وثائق «كي.جي بي» وبعد سنوات قليلة بدأ يحتفظ بنسخ لنفسه خبأها في بيته الريفي بالقرب من موسكو.
وقد حظي المؤرخ البريطاني الشهير كريستوفر أندرو بمعرفة متروخين والاطلاع على أرشيفه، ومنذ سنوات أصدر كتابه الأول بالتعاون مع متروخين وحمل عنوان «السيف والدرع». وقد أثار ذلك الكتاب عند صدوره ضجة هائلة نظراً لأنه كشف الكثير من أسرار عمليات «كي.جي.بي» في الولايات المتحدة وأوروبا، وفضح شخصيات كانت تحتل مناصب كبرى وتعمل لحساب الاستخبارات السوفييتية.
|
ومؤخراً صدر الكتاب الثاني الذي نناقشه هنا، ويحمل العنوان الدال «كي.جي.بي ومعركة العالم الثالث». ويعتبر هذا الكتاب «أرشيف متروخين الجزء الثاني، أهم بالنسبة لنا من الكتاب الأول نظراً لأنه يكشف عن الكثير من أسرار عمليات كي.جي.بي في العالم الثالث، وبصورة خاصة في المنطقة العربية والشرق الأوسط. ويقوم هذا الكتاب، الذي أصدرته دار «بيسيك بوكس» الاميركية للنشر أخيراً على أساس وثائق سرية للغاية ضمن أرشيف متروخين والتي وصفها مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» بأنها الوثائق الاستخباراتية الأكثر شمولاً وتوسعاً التي يتم الحصول عليها حتى الآن. ويكشف هذا الكتاب، الذي يقع في 676 صفحة من القطع المتوسط، عن ان الاستخبارات السوفييتية كانت تعتقد ان العالم الثالث هو مفتاح الفوز في صراع الحرب الباردة، كما يكشف لأول مرة عن تعاملات «كي جي بي» السرية مع زعماء ورؤساء حكومات دول العالم الثالث.
وكريستوفر أندرو مؤلف هذا الكتاب بالتعاون مع متروخين هو أستاذ للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة كامبردج، وزميل الجمعية التاريخية الملكية، واستاذ زائر سابق للأمن القومي بجامعة هارفارد ومحاضر ضيف بجامعات أميركية عديدة وفي الاستخبارات الأميركية «سي.آي.أيه» ومن بين مؤلفاته «استخبارات صاحبة الجلالة» و«كي.جي.بي» و«من أجل عيون الرئيس فقط.. الاستخبارات والرئاسة الأميركية».
وقد حصل على الدكتوراه الفخرية في الاستخبارات الاستراتيجية من كلية الاستخبارات العسكرية المشتركة في واشنطن.
«كي جي بي» وأميركا اللاتينية يوضح المؤلف أنه على مدى أكثر من أربعين عاماً بعد قيام الثورة الروسية، ظلت موسكو متشككة في قدرتها على تحدي النفوذ الأميركي في قارة أميركا الجنوبية، التي كانت تعتبر بمثابة الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
ولم تكن أهم عملية قامت بها الاستخبارات السوفييتية في أميركا اللاتينية خلال عصر ستالين تستهدف قلب أي نظام للحكم، بل كانت تستهدف اغتيال المنشق الروسي الشهير ليون تروتسكي الذي هرب إلى إحدى الضواحي بالقرب من مكسيكو سيتي.
وخلال الخمسينات من القرن العشرين لم تكن للاتحاد السوفييتي بعثات دبلوماسية ومراكز عمل لـ «كي جي بي» سوى في ثلاث عواصم بالقارة اللاتينية، وهي مكسيكو سيتي، بوينس آيريس ومونتفيديو، ورغم أن «كي جي بي» بدأت تقدم مساعدات سرية لحفنة من الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو في عام 1955، إلا أن المبالغ التي تقدمها ظلت قليلة بالمقارنة مع المساعدات التي كانت تقدم لأحزاب كبرى في الغرب وآسيا، ثم حدث تحول مهم مع ظهور جيل جديد من الزعماء الثوريين ذوي الشخصيات الكاريزمية في أميركا اللاتينية، وكان أبرزهم فيديل كاسترو.
وفي هذا الصدد يقول نيكولاي ليونوف أكبر خبراء شؤون أميركا اللاتينية في «كي جي بي» وأول من أجرى اتصالاً بكاسترو: لقد اضطرتنا كوبا إلى تغيير نظرتنا تجاه القارة اللاتينية بأكملها، التي كانت حتى ذلك الوقت تحتل المرتبة الأخيرة في سلم أولويات القيادة السوفييتية، وكان للكي جي بي، وليس لوزارة الخارجية، الدور القيادي في أميركا اللاتينية. وكما اعترف خروشوف في وقت لاحق فقد تم استبدال أول سفير سوفييتي في كوبا تحت قيادة كاسترو ليحل محله مسؤول في الاستخبارات السوفييتية والذي أثبت أنه الاختيار المثالي.
كما يصف نيكولاي ليونوف كيف أنه عمل مع العديد من زعماء أميركا اللاتينية الآخرين لمساعدتهم قدر الإمكان في مواقفهم المناهضة للسياسة الأميركية، وتمت أول اتصالات مع سلفادور الليندي قبل انتخابه رئيساً لتشيلي في عام 1970 ومع خوان وايزابيل بيرون قبل عودتهما إلى الأرجنتين في عام 1973 من خلال «كي جي بي» وليس من خلال الدبلوماسية السوفييتية التقليدية.
كما بدأت اتصالات «كي جي بي» بجماعة ساندنيستا قبل عقدين تقريباً من انتزاعها السلطة في نيكاراغوا عام 1979، كما يعترف ليونوف بأن المبادرة عادة كانت تأتي من خبراء «كي جي بي» بشؤون أميركا اللاتينية.
ويرى المولف أن عمليات «كي جي بي» قد عززها بصورة كبيرة رد الفعل الأميركي غير المدروس والعنيف في الكثير من الأحيان تجاه الحركات الثورية بأميركا اللاتينية.
وكانت محاولة المخابرات المركزية الأميركية «سي اي ايه» للإطاحة بكاسترو في العملية الشهيرة باسم «خليج الخنازير» في ابريل 1961 خير مثال على سوء التخطيط والتخبط الذي وقعت فيه الدبلوماسية الخارجية الأميركية إبان الحرب الباردة. ومع ذلك فإن الإهانة التي تعرضت لها الولايات المتحدة في خليج الخنازير لم تمنع الرئيس الأميركي جون كيندي من الموافقة على تنفيذ سلسلة من المخططات لاغتيال كاسترو أشهرها وضع السم في الشراب، وهي محاولة باءت بالفشل كغيرها.
وقد استغلت «كي جي بي» هذه السلسلة في محاولات المخابرات الأميركية ضد كاسترو وغيره من قادة أميركا اللاتينية وما كشفت عنه الصحافة من فضائح الألاعيب الأميركية القذرة في أميركا اللاتينية بدءاً بعملية «خليج الخنازير» وانتهاء بفضيحة الكونترا، ومروراً بعمليات أميركية عديدة أثارت حنق القارة اللاتينية ومن أهمها التدخل الأميركي في جمهورية الدومينكان في عام 1965 بحجة استعادة الديمقراطية.
ولكن الأمر المثير للسخرية أن الأنظمة اليسارية التي تمت الإطاحة بها بمساعدة أو بموافقة أميركية في غواتيمالا عام 1954 وجمهورية الدومينكان عام 1965 وتشيلي عام 1973 قد حلت محلها دكتاتوريات عسكرية!
آمال ومخاوف أنعشت انتصارات جبهة ساندنيستا في نيكاراغوا عام 1979 الكثير من آمال ومخاوف ثورات أميركا الوسطى التي أحدثها انتصار كاسترو قبل عشرين عاماً، وكانت حملة إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان ضد النظام الساندينستي بمثابة كارثة أخرى للدبلوماسية الأميركية على مستوى كارثة «خليج الخنازير».
فقد كشفت التقارير الصحافية النقاب عن أن الأرباح التي كان يتم جنيها من صفقات أسلحة أميركية سرية إلى إيران كان يجري تحويلها بصورة غير شرعية لدعم متمردي الكونترا في نيكاراغوا في محاولة للإطاحة بنظام ساندنيستا الماركسي.
وقد أظهر استطلاع للرأي جرى في منتصف الثمانينات من القرن الماضي أن أكثر دولتين بغيضتين من وجهة نظر الأكاديميين المكسيكيين هما الولايات المتحدة وتشيلي في عهد بينوشيه.
ورغم أن الاتحاد السوفييتي جاء في المركز الثالث، فقد أعرب 72% ممن جرى استطلاع رأيهم عن اقتناعهم بأن التقارير التي تشير إلى حالات قمع في الاتحاد السوفييتي مبالغ فيها.
أما الدولة التي كانت محط إعجابهم أكثر من غيرها فهي كوبا في ظل حكم كاسترو.
ولقد لعبت الاستخبارات السوفييتية دوراً في تعزيز مشاعر الاستياء ضد الامبريالية الأميركية، وعمدت إلى نشر أخبار ملفقة تشوه صورة الأميركيين مثل قصة أعضاء الأطفال التي زعمت في إطارها أن الأثرياء الأميركيين يشترون أطفال أميركا اللاتينية ويذبحونهم من أجل استخدام أجسامهم في زراعة الأعضاء.
وقد تم نشر هذه القصة الخبرية في أكثر من خمسين دولة بالعالم، ولم تكتشف أكثر الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان زيف هذه القصة ولم تدرك أن جهاز «كي جي بي» كان وراء تلفيقها.
ويقول مؤلفنا الذي يستقي معلوماته من أرشيف ميتروخين ان الاستخبارات السوفييتية عملت لفترات طويلة على «زراعة» موالين لها في العديد من دول أميركا اللاتينية.
فقبل انتخابات الرئاسة بكوستاريكا عام 1970 أجرت «كي جي بي» مباحثات سرية مع المرشح الناجح خوزيه فيغررز فيرير الذي كان أبرز سياسي كوستاريكا من بين أبناء جيله. وبوصفه رئيساً للعصبة الحاكمة للجمهورية الثانية لفترة ما بعد الحرب، تولى فيغررز مهمة تصفية الجيش وتحويل كوستاريكا إلى دولة ديمقراطية غير مسلحة ـ وهو ما يعد حدثاً فريداً في تاريخ القارة اللاتينية.
ويعود أول اتصال لفيغررز مع الاستخبارات السوفييتية إلى عام 1951، وكان فيغررز أول رئيس منتخب في عام 1953 وظل رئيساً حتى عام 1958.
وقد لفت عداؤه الطويل لدكتاتورية سوموزا، التي كانت تساندها الولايات المتحدة في نيكاراغوا المجاورة، اهتمام «كي جي بي».
ورغم نهجه غير العسكري، فقد أصبح فيغررز مؤيداً قوياً لحركة سانديستا. وقبل انتخابات الرئاسة في عام 1970، قامت كي جي بي سراً بتحويل مبلغ 300 ألف دولار للمساعدة في تمويل حملته في مقابل وعد بإقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي، في حال انتخابه.
وقد أوفى فيغررز بوعده بمجرد فوزه في الانتخابات. وفي عام 1971 فوضت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي موسولوف عميل الاستخبارات الجديدة في سان خوزيه بإجراء اتصالات معه. واتفق الاثنان على ترتيب اجتماعات سرية دورية من خلال وسيط يكون موضع ثقة الرئيس. وقبل كل اجتماع، كان الوسيط يلتقي موسولوف في مكان يتم ترتيبه مسبقاً في سان خوزيه، ثم يصحبه في سيارته حيث يلتقي بالرئيس فيغررز.
وبهذه الاتصالات أظهر جهاز «كي جي بي» للزعامة السوفييتية قدرته على الوصول إلى أكبر الشخصيات والقيادات في قارة كانت تهيمن عليها في السابق الامبريالية الأميركية. كما زعم أنه قادر على التأثير بشكل إيجابي على فيغررز. وكان فيغررز يقدم لعميل «كي جي بي» تقارير سرية حول دول أخرى في أميركا الوسطى والكاريبي، كما كان يناقشه في مستقبله السياسي، على أمل أن يحصل على المزيد من الدعم المالي السوفييتي.
وقد أبلغ فيغررز موسولوف بأنه يعتزم مواصلة زعامته لحزبه السياسي والتأثير على قرارات الحكومة حتى بعد أن حل سياسي آخر محله رئيساً لكوستاريكا في عام 1974. يقول موسولوف في أحد تقاريره: «إنه لتحقيق ذلك، حصل فيغررز على محطة إذاعية، وقناة تلفزيونية واستعد لإصدار صحيفة خاصة به».
واعتبر جهاز «كي جي بي» كل هذه الأمور بمثابة أدوات مفيدة للقيام بإجراءات نشطة لصالح الاتحاد السوفييتي. ولهذا فقد تم تقديم عشرة آلاف دولار أميركي له من خلال عملية شراء وهمية لأسهم في صحيفته. وعندما قبل فيغررز المبلغ، قال إنه في غاية الامتنان للدعم السوفييتي.
إلا أن الاتصالات الأكثر أهمية التي نجح جهاز «كي جي بي» في إجرائها بقارة أميركا اللاتينية، كانت مع سلفادور الليندي الذي وصف أحد المعتقلين السوفييت انتخابه رئيساً لتشيلي في عام 1970 بأنه «ثاني أهم انتصار بعد الثورة الكوبية وإنه يمثل ضربة ثورية للنظام الامبريالي في أميركا اللاتينية».
وكان الليندي أول ماركسي في العالم يفوز من خلال صناديق الاقتراع، كما ذكرت صحيفة «البرافدا» والصحف السوفييتية الرسمية الأخرى أن فوز الليندي في تشيلي، في أعقاب ظهور حكومات عسكرية «تقدمية» في بيرو وبوليفيا، يمهد الطريق أمام دول أميركا اللاتينية نحو الاستقلال الحقيقي.
يقول مؤلفنا إن الليندي أثار اهتمام «كي جي بي» في وقت مبكر خلال أوائل الخمسينات عندما دخل في تحالف مع الحزب الشيوعي المحظور في ذلك الوقت. وكان الليندي زعيماً للحزب الاشتراكي التشيلي. وخاض الليندي انتخابات 1952 إلا أنه لم يفز سوى بسته في المئة فقط من الأصوات.
وقد أجرى ضابط للاستخبارات السياسية السوفييتية، كان يعمل تحت غطاء مراسل لوكالة نوفوستي، أول اتصال مباشر مع الليندي في العام التالي. وخلال انتخابات الرئاسة التي جرت في عام 1958 جاء الليندي في المركز الثاني بفارق 35 ألف صوت فقط. ووفقاً لأرشيف «كي جي بي» عن الليندي فإن أول اتصال منتظم أقيم معه في عام 1961 عندما تم افتتاح بعثة تجارية سوفييتية في تشيلي وكانت تعمل كغطاء لـ «كي جي بي».
ووفقاً للأرشيف فإن الليندي قد أبدى استعداده للتعاون على أساس سري وتقديم أي مساعدة ضرورية نظراً لأنه يعتبر نفسه صديقاً للاتحاد السوفييتي. وقام برغبته بنقل معلومات والحصول على معلومات سياسية رغم أنه أصبح وسيلة اتصال سرية لـ «كي جي بي»، إلا أنه لم يتم تصنيفه مطلقاً كعميل لها.
ويزعم أرشيف «كي جي بي» أيضاً أن الليندي لعب دوراً في الحملة التي أدت في النهاية إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفييتي وتشيلي عام 1964. وضمت السفارة السوفييتية الجديدة في سانتياغو أول مقر إقامة شرعي لـ «كي جي بي» على أرض تشيلي.
تأليف :كريستوفر أندرو وفاسيلي متروخين
البيان