سيثير هذا الموضوع أسئلة كثيرة أمام المراقب العربي خاصة وسيبقى الكثير منها دون اجابة حقيقية، فالمراقب المتابع بدقة للملفات المطروحة على الساحة العراقية، سيخرج باستنتاجات مغايرة للبدايات ، دون أن يؤشر اسباب ذلك أو يعطي التفسير المنطقي لهذا الأفتراق. فهل هذا جزء من خداع البصر ، ام هو الخوف من مقاربة واقعية مع أحداث ساخنة أصلاً يمكن ان تكلف اصحابها استقرارهم، اقتصادياً واجتماعياً، أم أنه وهم السراب الذي يحيط بالمشهد العراقي برمته وما يحيط به من تجاذبات محلية وأقليمية ودولية .. . تباعاً سقطت أهداف الغزو الأمريكي للعراق برغم أن كل مرحلة كانت تؤشر هدفاً بديلاً عما سبقه ، فبعد أن تهاوت مزاعم امتلاك العراق برنامجا لانتاج أسلحة الدمار الشامل، او امتلاك هذه الأسلحة، تم التركيز على صلات العراق بالأرهاب الدولي ،وبذلت أجهزة الأستخبارات الأمريكية التي أنتشرت في العراق بعد الاحتلال بكثافة ، جهوداً مضنية لأيجاد رأس خيط يثبت مصداقية تلك التهم، ولكن النتيجة أكدت سقوطها تماماً ، وتم تقاذف الأتهامات داخل الولايات المتحدة نفسها، لأن عدم التوصل الى مايثبت ذلك عرض السمعة الأمريكية لهزة دولية كبيرة. وبات حتمياً البحث عن سبب بديل للحرب، فاستقر الأمر عند القضاء على( الدكتاتورية وأقامة نظام ديمقراطي في العراق)، يكون المحطة الاولى التي تنتشر منها رياح التغير في المنطقة، ولكن ثلاث سنوات ونصف من التجارب الأمريكية واستبدال الخيارات والمفاتيح والقيادات والأساليب ، كانت تطيح بالامال الأمريكية المتنقلة من هدف نحو اخر، وأدخلت العراق في الفوضى المدمرة، وفتحت أبواب البلاد أمام أكبر خطر خارجي اقليمي يوشك أن يقتلع ركائزه الحضارية والسياسية والأقتصادية، ذلك هو النفوذ الأيراني المتعاظم.
فهل خططت الولايات المتحدة حين قررت غزو العراق ، لأن تسلم هذا البلد طبقاً جاهزاً للقضم من قبل قوى دينية ، ظلت أمريكا على خلاف معها لعقود طويلة حتى حينما كانت حركات سياسية معارضة لنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ، وفي حالة عداء حاد مع النظام السياسي الملهم لها ، وهو النظام الديني في إيران والذي شهد حالات تململ لتغير جلده دون أن يمس عقل مركز صنع القرار أو قلبه في طهران؟ وهل كانت أمريكا تتوقع هذه النتيجة حينما أنساقت وراء وعود بعض السياسيين العراقيين الذين كانوا في صفوف المعارضة ، والذين تمكنوا من تضليل أجهزة مخابراتها حول تصورهم لشكل النظام الذي يريدون أقامته بدعم أمريكي ؟ بل لقد وصل التضليل الى مستويات عليا في مواقع التأثير الستراتيجي في الولايات المتحدة . . قد يبدوالأمر غاية في عدم الأدراك أو الفهم ، خاصة وأن أمريكا تناصب الحركات الدينية العداء الصارم كالذي نلاحظه بالنسبة لحركة حماس في فلسطين ، أو حزب الله في لبنان أو حتى الموقف المعلن من الحكومة الأيرانية ، بصرف النظر عمن يحكم في طهران ، سواء أولئك الذين يوصفون بالأصلاحيين والذين أمضوا ثماني سنين في الحكم دون أن يتمكنوا من أقناع واشنطن بتليين موقفها أزاء سياسات أيران أو نواياها وطموحاتها في التحول الى قوة أقليمية كبيرة لأستعادة هراوة الدركي و التي سقطت من اليد الأيرانية بسقوط شاه أيران في شباط 1979 . ولكن حينما نلاحظ أن أمريكا خاضت حرباً عظمى جازفت خلالها بخرق قواعد القانون الدولي عندما أدارت ظهرها للأمم المتحدة وللأسرة الدولية ، بل لشعوب أوربا وأمريكا نفسها والتي وقفت ضد الحرب ، ثم تحملت خسائر بشرية ومادية غير عادية ، ثم في نهاية المطاف تقدم كرسي الحكم في العراق لقوى في واقع الحال لا تختلف عن حزب موضوع على لائحة الأرهاب ، بل هي نسخة عراقية من تجربة إيرانية يراد تسويقها أو فرضها دون تضحيات إيرانية مباشرة ، ولكن وهنا تكمن المفارقة أن أهداف إيران تحققها لها أمريكا نفسها ، دون جهد إيراني وبتضحيات أمريكية خالصة ، ولم يكن بوسع أي قوة أن تحقق لإيران هذه الأنجازات لولا الدور الأمريكي ، وهذه حقيقة تعترف بها جميع الأطراف العراقية المشاركة في التشكيلات التي وضع أسسها المحتل الأمريكي .
ولذا فإن هذا الطرح لابد أن يستدعي تساولاً ملحاً ، هل أرادت أمريكا هذه النتيجة ؟ وهل يصح أن طرفاً ما وخاصة بإ مكانات الولايات المتحدة ، أن يشتغل ضد مصالحه ؟ أم أن ما تحقق كان رغماً عن أرادة واشنطن وخلاف تخطيطاتها ؟ أي بعبارة أخرى هل كانت طهران أقدر من واشنطن على التخطيط من جهة وأفشال خطط أعدائها من جهة اخرى؟ . فان كانت واشنطن أرادت ذلك فما هي مسوغات موقف كهذا ؟ وما هي الضمانات أن لاينقلب العراق الى عدو لأمريكا سيكون أكثر خطراً على مشروعاتها من عراق صدام حسين؟ ذلك أن نظام بغداد الذي أسقطته القوات الأمريكية كان معزولاً عن محيطه الأقليمي بقوة الاستفراد الأمريكي في الساحة الدولية ، بل هناك حالة من العداء من أكثر جيرانه مما يجعل من مواقفه ومهما تأصلت في اطروحتها القومية وفي عدائها الأيدلوجي لواشنطن فأنها ستبقى محكومة بقوانين الجغرافيا وضعف التأثير بسبب جدار العزلة الني فرضها الأمريكيون أنفسهم عليه ، أما ما يمكن أن يحصل في العراق الجديد فهو خطر كبير يهدد الأمن الأقليمي ، من خلال العلاقات الجديدة بين بغداد وطهران ، والتي ستشهد تنسيقاً على كل المحاور مع دخول الدين والتشيع خصوصاً على الخط ليوحد المنهاج السياسي والفكري لدولتين تملكان ثقلاً سكانياً وأقتصادياً لن يكون بوسع الولايات المتحدة أيقاف مده المتصاعد . فهل تكفي المواقف المعلنة ، والنوايا الحسنة في ألا يتحول ذلك الخطر من أحتمال وراء الأفق الى حقيقة مؤكدة على الأرض؟ وأذا أفترضنا أن مشاعر رد الجميل تجاه أمريكا ، أو أن الوجود العسكري الأمريكي الفعال في العراق سيمنع الزعامات العراقية الجديدة ، والتي جاءت الى الحكم بفعل الغزو الأمريكي ، من أي تصرف يمكن أن يسيُ الى المصالح الأمريكية ، فهل ينعكس ذلك تلقائياً على هيئة التزام بالموقف ذاته تجاه دول الاقليم النفطي، خاصة وأن هناك أسبابا جدية لأثارة المشاعر .
فالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ، وهي خزان النفط الستراتيجي في البلاد تتركز فيها الأقلية الشيعية ، وهذا مايمكن أن يوفر أغراءً عالياً لايران للتحرك على ضوء ما أفرزته المستجدات الحاصلة في الساحة العراقية ، واذا ما تعرض الوضع في المملكة العربية السعودية ، وبقية دول الخليج العربي الذي تعيش فيه أقليات شيعية تعاني من أحساس مفتعل بالغبن والتهميش ، لأي شكل من محاولات التأثير أو التغيير ، فإن ذلك سيهدد جدياًُ بأعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة ، وحينها تتهاوى كثير من الركائز تحت ضغوط أقل حدة في مناطق أخرى من المنطقة لأسباب أخرى غير التشيع . واذا برزت نوايا من هذا القبيل فهل تغدو أمريكا في وضع مريح ، أي بعبارة اخرى،حين خططت واشنطن لممارسة ضغوط سياسية من طراز غير معهود على دول خرج منها معظم منفذي عمليات 11 أيلول 2001 ، فان الولايات المتحدة ستبدو كمن ينتقم من دول صديقة لها، بسبب فعل أفراد يحملون جنسياتها أو لربما لأسباب أخرى ، ومنها محاولة هذه الدول ايجاد توازن في علاقاتها الخارجية وخاصة مع الدول الكبرى من جهة ، وبسبب رفضها للانحياز الأمريكي المفتوح الى جانب اسرائيل بكيفية جعلت من القوى الدينية المتطرفة قوة الدفع الأساسية في التصدي للمشروع الأمريكي ، وللتعريض بارتباطات هذه الدول بالولايات المتحدة .
أما اذا كان ما يحصل في العراق ، وخاصة على جهة اتساع النفوذ الايراني أمراً مفروضاً عليها ، فحين ذاك سيبرز سؤال جدي ، وهو كيف تستطيع الولايات المتحدة تطويق الوضع الجديد ومنع الملف العراقي من الخروج عن نطاق السيطرة ، وهل أعدت خططاً للطوارئ في حالة كهذه ؟ خاصة وأن قرارات مجلس الأمن تلزم واشنطن بصيانة أستقلال العراق وسيادته ووحدة أراضيه وأمنه . من الممكن العودة الى تصريحات كانت أدلت بها كوندليزا رايس والتي أعترفت فيها بأرتكاب ألاف الأخطاء ،ولكنها حاولت التقليل من شأن هذه الأخطاء فوصفتها بالتكتيكية) أي أن رايس لم تشأ أن تعترف بأن الخطأ الستراتيجي الذي ارتكبته بلادها كان شن الحرب وما نجم عنه من أخطاء متوالية ، ولكن ما جاء على لسان مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلنتون ، كان أكثر تحديداً لطبيعة المأزق الأمريكي في العراق ، حيث قالت أن غزو العراق هو أكبر الأخطاء الستراتيجية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ، وهنا تلامس أولبرايت حجم الهزيمة التي لحقت ببلادها في العراق ، وبسبب الظرف المعقد الذي يجتازه العراق ، فأن غنيمة النصر ستذهب الى طرف أخر ، لم يتكبد أي خسارة في المواجهة ولم يبذل أي جهد في المعارك الطاحنة التي خاضتها المقاومة العراقية ، ويبدو أن طهران أستوعبت الدرس المستخلص من مقولة لنكيتا خروشوف رئيس وزراء الأتحاد السوفيتي في أوج مرحلة الحرب الباردة حول موقف بلاده من أيران ، أذ قال حينها أن أيران تفاحة ناضجة ونحن نمد يدنا لألتقاطها متى تسقط من الشجرة ... وها هي أيران تفعل نفس الشيئ مع العراق ، وايران على هذا ستبدو كمن يحصد زرع غيره في العراق ، رغم أنها لم تطلق رصاصة واحدة ولم تفقد جندياً واحداً ، وهنا تكمن أخطر المفارقات في حرب العراق ، فأمريكا التي خاضت حرباً طاحنة خسرت فيها عشرات الآلاف من جنودها بين قتيل وجريح ، ومئات الآليات والمعدات الحربية وأكثر من ذلك خسرت رصيداًعالياً من سمعتها وهيبتها على الصعيد الدولي ، كانت بالنتيجة النهائية تبدو وكأنها قدمت كل تلك التضحيات هدية على طبق من ذهب لعدوها اللدود أيران التي تمتلك نفوذاً يفوق نفوذ الولايات المتحدة ، ليس في العراق فقط وانما في معظم الدول التي تقع في نطاق المجال الحيوي للمصالح الأمريكية ، وبذلك تحولت ايران من هدف المرحلة الثانية لخطة الانتشار الأمريكي ، الى قوة تسعى للانتشار في مناطق النفوذ الأمريكي ، وأستطاعت الزعامة الايرانية توظيف ملفات تجد تأييداً قاطعاً في الشارعين العربي والاسلامي كالقضية الفلسطينية أو العدوان الاسرائيلي على لبنان ، لمد جذور نفوذها أكثر فأكثر في العراق ، وأخذت تصعد من لغة تحديها ليس للولايات المتحدة فقط بل للمجتمع الدولي ،بشأن برنامجها النووي ، وخططها التسليحية ، ولعل أكبر مفارقة في بيدر المكاسب الايرانية من التورط الأمريكي في العراق ، أن ايران ودون تخطيط منها استطاعت السطو على تضحيات قوى محسوبة في معظم الأحيان في صف أعدائها سياسياً وعقائدياً ، وهم سنة العراق الذين خاضوا حرباً ضد الوجود الأمريكي فجاءت ايران في موسم القطاف لتجني المكاسب لنفسها ، وتضع الخطط المعادية لمن كان سبباً في اقتناصها لتلك الفرص ، خاصة وأن المقاومة العراقية وهي في معظمها سنية ، ربما أصابها بعض الارهاق نتيجة المواجهة الطويلة وما لحق في مناطقها من قتل ودمار ، اضافة الى الملاحقات التي تشنها مليشيات محسوبة على أيران وخاصة جيش المهدي وفيلق بدر ، وهذا ما جفف جزءً حيوياً من ينابيع دعمها ، وعلى هذا فيبدو السؤال التالي منطقياً وهو هل أبقى العرب السنة في العراق شيئاً من حيوية الجهد للتصدي الناجح للمشروع الايراني بنفس كفاءة التصدي للمشروع الأمريكي ؟
الاستاذ نزار السامرائي
المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية