كتاب ـ التطهير العرقي في فلسطين ـ الحلقة (9)

صفقة طائرات تشجع الإسرائيليين على الوصول إلى جسور الأردن
تأليف :إيلان بابه
يجد القارئ نفسه هنا على موعد مع المزيد من الأضواء الكاشفة التي يلقيها المؤلف على مراحل التصعيد الإسرائيلي لعملية التطهير العرقي في فلسطين، مؤكدا أن تدفق الأسلحة والمعدات، وبصفة خاصة الطائرات، كان وراء هذا التصعيد الذي انطلقت المرحلة الأخيرة منه تحت بصر مراقبي الأمم المتحدة وسمعهم، وهو يشير إلى أن إسرائيل استغلت الهدنة الأولى مع الجيوش العربية منذ لحظة سريانها لتحقيق هدف واحد صريح ومحدد بدقة، وهو تدمير القرى والمدن العربية ومنع أهلها من العودة إليها
يختار الدكتور إيلان بابه في حديثه عن جرائم التطهير العرقي التي ارتكبتها العصابات الصهيونية والتي ازدادت وتيرتها في الشهور السابقة ليوم 15 مايو 1948، عنوانا للفصل السابع من كتابه العبارة التالية: «تصعيد عمليات التطهير العرقي ـ يونيو ـ سبتمبر 1948». ثم يورد في صدره ثلاث مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في قرارها رقم 217 (أ) في العاشر من ديسمبر 1948 وهو اليوم السابق للقرار رقم 194 الذي أعلن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم دون قيد أو شرط. فإذا خلصنا من قراءة ذلك الفصل السابع يتضح لنا إلى أي حد تملصت إسرائيل من القوانين والأعراف الدولية بما في ذلك قرارات المنظمة الدولية منذ تقسيم فلسطين حتى اليوم. ويبدأ المؤلف حديثه بقوله: رغم المفاوضات التي كان يجريها الكونت فولك برنادوت وسيط الأمم المتحدة لإعلان هدنة استمر التطهير العرقي للفلسطينيين دون توقف.

وكتب دافيد بن غوريون معبرا عن رضاه في يومياته عن يوم 5 يونيو 1948 ليقول إن عمليات التطهير مستمرة، ويذكر أسماء بعض القرى، ثم يعود في نهاية مايو ليسجل في يومياته اهتمامه بتلك العمليات ويكتب قائمة بأسماء القرى التي تم الاستيلاء عليها ومساحة أراضيها وعدد سكانها الذين طردتهم العصابات الصهيونية. وبعد يومين عقد اجتماعا في بيته لتقدير كمية الأموال التي نهبت من البنوك التي أودع العرب فيها أموالهم، وعدد بيارات الموالح التي صودرت من الفلسطينيين بالإضافة إلى أية ممتلكات أخرى.


شكوى بن غوريون


وهنا يشير المؤلف إلى أن بن غوريون كان مهتما بتوزيع الغنائم الفلسطينية. أما بالنسبة لأنشطة العصابات في الميدان فقد سجل رئيس الوزراء اليهودي كثيرا من الملاحظات في يومياته عن أحاديثه مع ضباط الجيش عن نقص متفجرات تي إن تي لأن الجيش كان قد استهلك كميات هائلة منها في تدمير البيوت الفلسطينية وفقا لخطة التطهير العرقي المسماة (الخطة داليت) كما أسلفنا.


ولم تستثن القوات الإسرائيلية شيئا في هجماتها، وكأنها عاصفة عاتية تمحو كل شيء يصادفها، وأصبحت كل الوسائل في نظرها شرعية بما في ذلك إشعال النيران في البيوت حتى تأتي عليها عن آخرها بعد أن شحت كميات الديناميت، وحرق الحقول وبقايا القرى الفلسطينية التي هوجمت.


وكان تصعيد عمليات التطهير العرقي نتيجة مباشرة لاجتماع أعضاء اللجنة الاستشارية مع بن غوريون في اليوم الأول من يونيو. وقد ذكر هؤلاء الأعضاء أن أهل القرى يحاولون العودة إلى بيوتهم، ولذلك فقد قرروا إصدار الأمر إلى الجيش لمنعهم مهما كان الثمن. وفي يوم 16 يونيو 1948 حصل بن غوريون على تفويض مطلق. وكانت الأيام الأولى من ذلك الشهر قد شهدت طفرات قصيرة للجيوش العربية التي أصابت مدفعيتها كل شيء يقع في مداها وأغارت طائرات سلاح الجو المصري على تل أبيب أربع أو خمس مرات ووجهت ضربة مباشرة إلى بيت بن غوريون يوم 4 يونيو أصابته بدمار محدود.


ولكن ما لبثت أن نفدت طاقة الجهد العربي لإنقاذ فلسطين مع إصرار الفيلق العربي على بقاء القدس الشرقية جزءا من الأردن، وظلت الحرب تراوح مكانها. أما القوات الإسرائيلية فقد كان بن غوريون وحده هو الذي يوزع المهام عليها، وكان معنى تقسيم العمل بينها أن الجانب اليهودي فقد التأثير الذي يحتاج إليه للانتصار على الأردنيين. كذلك تواصل القتال بسبب القدرة التي أبداها المتطوعون المصريون الذين استطاعوا الصمود في النقب بالإضافة إلى القرى في جنوب غرب القدس. ومن ثم فقد قبل الإسرائيليون عرض وسيط الأمم المتحدة الكونت برنادوت لإعلان هدنة.


ويتناول مؤلف الكتاب الهدنة الأولى بقوله إن التدمير كان جوهر الأنشطة الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى لسريان الهدنة المعلنة رسميا يوم 8 يونيو والتي نفذت عمليا بدءا من يوم 11 يونيو 1948 واستمرت أربعة أسابيع. وأثناء الهدنة قام الجيش الإسرائيلي بعمليات تدمير ضخمة لعدد من القرى التي أخليت.


وبعد أن يسمي المؤلف بعض تلك القرى يقول إن القيادة العسكرية الإسرائيلية ظلت مشغولة خلال شهر يونيو في العمل على مد مساحة الدولة اليهودية إلى ما هو أبعد من نسبة الثمانية والسبعين في المئة من أرض فلسطين تحت الانتداب والتي كانت قد احتلتها بالفعل.


وفي نفس الوقت تلقت إسرائيل شحنة كبيرة من الطائرات شجعتها على بدء عملية جديدة في أول يونيو 1948 لاحتلال جنين وتل كارم وقلقيلية وقصف واحتلال الجسور على نهر الأردن. ورغم أنه كان مقررا حصر الغارات الجوية الإسرائيلية على طول حدود الدولة آنذاك نجد في الأرشيف العسكري أوامر بتوجيه القصف الجوي إلى جنين وتل كارم بالإضافة إلى القرى الواقعة على الحدود الفلسطينية.


وبدءا من شهر يوليو وما بعده استخدمت الطائرات بكثافة في عمليات التطهير العرقي لإجبار سكان القرى على الهجرة الجماعية واصطياد أي شخص دون تمييز إذا لم يتمكن من تحاشي القصف الجوي. ويشير الكتاب إلى أن القيادة الصهيونية برئاسة بن غوريون كانت سعيدة بالتركيز على المسيرة البشرية الطويلة الفلسطينية المتجهة إلى الجليل الأعلى، ولذلك صدرت الأوامر إلى القوات بالاندفاع إلى الحدود اللبنانية.


وكانت قوة الجيش اللبناني مكونة من خمسة آلاف جندي، تمركز ألفان منها على الحدود بالإضافة إلى ألفي متطوع من جيش التحرير العربي. وقد تمركز معظمهم حول الناصرة، وانتشر الباقون في مجموعات صغيرة بين اثنتي عشرة قرية في المنطقة. وقد استمر المتطوعون بقيادة فوزي القاووقجي في بذل أقصي جهودهم في الدفاع عن القرى وأبدوا بعض الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي الخطير، ولكنهم عانوا من سوء نوعية أسلحتهم والافتقار إلى الذخيرة فضلا عن قلة عددهم وخبرتهم العسكرية.